قراءة في ميتافيزيقا اللون والزمن: معرض "كرونوسيا" للفنان عماد المقداد
23-12-2025 09:17 AM
عمون - من الدكتور مهند الداود - لقد اعتدتم مني دائماً التحليل والنقد، ولكنني حين وقفت أمام "كرونوسيا"، شعرت للوهلة الأولى أننا أمام فلسفة وجودية عميقة. إن الفن التشكيلي، في جوهره، هو فلسفة غير تقليدية، تستلزم متلقياً يمتلك أدوات التأمل ليفك شفرات المبدع. لقد سبق لعماد المقداد أن قدم "الأعمدة الستة"، وقد حظيتُ حينها بشرف القراءة والتحليل لماهيات تلك التجربة، أما اليوم، فهو يدلو بدلوه في فضاء أرحب بعد مخاض تجربي عسير.
وفيما يلي محاور هذه القراءة النقدية:
١. عتبة العنوان: "كرونوسيا" والاشتباك مع الزمن
يعد العنوان مفتاحاً تأويلياً يجمع بين الزمن كقيمة فيزيائية (Chronos) وبين الرؤية الفنية، حيث يحاول المقداد صهر الوقت في بوطقة اللوحة، ليجعل من اللحظة العابرة قيمة بصرية خالدة.
٢. من الأعمدة الستة إلى "الأسكاتولوجيا" (علم النهايات)
انتقل الفنان من مرحلة التأسيس الهيكلي في "الأعمدة الستة" إلى فلسفة "الأسكاتولوجيا"؛ وهي التفكر في نهايات الأشياء ومآلات الوجود. إنها دعوة للتأمل في المصائر من خلال شفرات لونية وعلاقات بصرية معقدة.
٣. تجليات الهوية: ابن الشام والذاكرة الحضارية
لا ينفصل فن عماد المقداد عن جذوره؛ فهو ابن سوريا العظيمة، تلك الأرض التي غذت الإنسانية بالمعارف وكانت منارة للمدن التاريخية. أعماله هي انعكاس لهذا الإرث الحضاري الشاخص الذي يمنح الفنان ثقلاً معرفياً قبل أن يكون بصرياً.
٤. اللون كأداة للمقاومة السلمية
رغم ما عاناه الفنان من ارتدادات الصراعات السياسية والتعقيدات الطائفية والإثنية، إلا أنه اختار أن يواجه "مكر السياسة" بسلامة اللون. فاللون عنده ليس مجرد صبغة، بل هو علامة بصرية تؤثث حمولات النص البصري وتمنحه قدسية السلام.
٥. السرد القصصي في النص البصري
تتمتع كل لوحة في المعرض ببنية سردية خاصة؛ فهي لا تقف عند حدود الشكل، بل تروي قصصاً تارةً عن الشام بوصفها الحضن الأكبر، وتارةً عن الوجع الإنساني، مما يحول المعرض إلى رواية بصرية متصلة الفصول.
٦. الانعتاق من أيدلوجيا المسميات
يوجه المقداد رسالة إلى "أولي الألباب" مفادها أن سوريا باقية وعصية على الاختزال في مسميات سياسية أو عابرة. إن فنه هو تأكيد على أن الهوية الثقافية أطول عمراً من الأزمات الطارئة.
٧. جدلية الواقع المتخيل واللاشعور
يمزج الفنان في أعماله بين الواقع الملموس وبين تدفقات اللاشعور. إنه "واقع مصوف" (من التصوف والرؤية الباطنية) داخل بوطقة التخيل، مما ينتج شيئاً جديداً يضيف للمشهد التشكيلي العربي والإنساني قيمأً جمالية مبتكرة.
٨. بلاغة التكوين وعين الناقد
إن ما قدمه عماد في هذا المعرض يكشف عن "عين ثاقبة" تعرف كيف تنقل المأساة إلى فضاء الجمال. إنها وحدة علاقات صورية تتناغم مع مدركات المتلقي الحسية، وتجبره على إعادة النظر في تكوين الصورة ومعناها.
٩. المركز الثقافي الملكي: فضاء الاحتفاء بالإبداع
يأتي هذا المعرض في عمان الحبيبة، وفي رحاب المركز الثقافي الملكي، ليكون جسراً ثقافياً يؤكد وحدة الوجع والآمال العربية، ويثبت أن الفن هو اللغة المشتركة التي تتجاوز الحدود.
١٠. الاستمرارية البهية: سوريا التي لا تنتهي
ختاماً، أرى في "أسكاتولوجيا" المقداد نهاياتٍ تؤدي إلى بدايات جديدة. فسوريا في لوحاته تظل بهية، عظيمة، وباقية. بوركت تلك الأنامل التي جعلت من "النهايات" فلسفة للاستمرار، وبوركت هذه الرؤية التي أضافت للمكتبة البصرية العربية فصلاً جديداً من فصول الإبداع.