الذكاء الاصطناعي والبحث العلمي
أ.د سلطان المعاني
11-07-2025 01:41 AM
يشكّل الذكاء الاصطناعي اليوم منعطفًا حاسمًا في تاريخ البحث العلمي، من حيث كونه تقنية إضافية تكمّل أدوات المعرفة، وباعتباره قوة تحويلية تعيد تشكيل منظومات التفكير، وتدفع بالعقل الإنساني إلى عتبات جديدة من التأمل والتجاوز. إن حضوره المتصاعد في فضاء العصف الذهني العلمي، واستثماره في اختصار المسافات بين الفكرة والمصدر، يشي بانقلاب في صيغ الإنتاج المعرفي ذاته، حتى غدا الذكاء الاصطناعي واسطة للاكتشاف، وبؤرة جديدة لصناعة الأسئلة واستبصار الاحتمالات الكامنة في ثنايا النصوص والبيانات.
لم يعد الوصول إلى المصادر مسألة ترتبط حصريًا بالمهارة البشرية، ولا تقتصر على شبكة العلاقات التقليدية بين الباحث والمكتبة أو قاعدة البيانات؛ إذ تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى وسيط معرفي يحسن التنقيب في غابة النصوص، ويعيد تركيب الخرائط المعرفية باستدعاء المصادر ذات الصلة، في لمح البصر، من بين ركام البيانات. تتراجع أمامه الفجوات الزمنية التي طالما أعاقت تقدم البحث، وتتكثف إمكانات الإحاطة الشاملة بما يتصل بالموضوع قيد الدرس، الأمر الذي يفسح مجالًا واسعًا لتكثيف الجهد التأملي، والانشغال بما هو أعمق من التقنيات الإجرائية. هنا، يصبح الزمن نفسه، الذي طالما كان عدو المعرفة، أكثر طواعية وانصياعًا، فيتضاعف معدل الإنجاز وتنتقل البحوث من ضيق المراوحة في التفاصيل إلى رحابة الأسئلة الكلية والجذرية.
في هذا الإطار، يطفو السؤال عن نسبة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي إلى السطح، متخذاً طابعًا فلسفيًا وأخلاقيًا معًا. إن فكرة حصر نسبة المساهمة في حدود 25 بالمئة، مشروطة بالإفصاح الصريح، تكشف عن وعي متنامٍ بضرورة صيانة أصالة العمل العلمي، وحماية الجهد البشري من التماهي الكلي مع الماكينة. فالبحث العلمي هو فعل إبداع، وجرأة في طرح الأسئلة، وسعي لاجتراح إجابات لم تُكتب بعد. وكلما ازداد حضور الذكاء الاصطناعي في متن العملية البحثية، أضحى ضرورياً ترسيخ قواعد الشفافية والإفصاح، حماية لحقوق التأليف، وضماناً لاستمرار التمييز بين ما هو إنساني المصدر وما هو نتاج لأدوات الذكاء الصناعي.
لكن الذكاء الاصطناعي، على الرغم من كل ما أُسبغ عليه من صفات شبه ذاتية، يبقى في جوهره مرآة لما يُغذى به من بيانات وما يُبرمج عليه من مقاصد. هو أداة عمياء خارج إرادة من يوظفها، وفكرته الكبرى لا تكمن في استقلاله الذاتي، وإنما في قابليته للتطويع والتوجيه بما يخدم مشروع الباحث وحدسه وجرأته على الابتكار. تُختبر القيمة المعرفية الحقيقية للذكاء الاصطناعي حين يُسخَّر لاستنطاق غير المنظور، واقتناص اللحظة الفارقة بين المألوف والابتكار، تلك اللحظة التي تظل، على الدوام، مرهونة بمغامرة العقل الإنساني وأفقه المتجدد.
في ضوء ذلك، يتبدى الذكاء الاصطناعي كتجسيد جديد لفكرة "الأداة" الكلاسيكية، ولكن بأبعاد تتجاوز الدور الوظيفي نحو صناعة المعنى ذاته، إذ ينقل البحث العلمي من حالته الكلاسيكية إلى أفق من السيولة والتجاوز؛ يرفده بالسرعة، ويثريه بسعة البيانات، غير أنه لا ينوب عن صيرورة التفكير النقدي، ولا يملك أن يبتكر سؤالاً من خارج ما أُدخل إليه من تجارب وبيانات. وهنا تكمن المفارقة: كلما ازدادت قدرة الباحث على توجيه الذكاء الاصطناعي ليكون شريكًا في التفكير لا مجرد مُنفِّذ، انفتح البحث العلمي على عوالم لم تكن ممكنة من قبل، وتولّدت أسئلة جديدة حول حدود الإبداع، ومفهوم الأصالة، ودور الإنسان في عصر الشراكة مع العقل المصنّع.
بهذا المنظور، يستدعى الذكاء الاصطناعي في بعده التقني، وبوصفه تحدياً فلسفيًا، يتطلب من كل باحث أن يعيد النظر في معنى البحث ذاته، وفي حدود العلاقة بين الإنسان وأدواته. إن الشرط الإنساني يظل، رغم كل شيء، هو العنصر الحاسم في عملية البحث؛ فالذكاء الاصطناعي، مهما بلغت قدراته، لا يخرج عن كونه رافعة معرفية تنتظر من يوجهها، وجسرًا بين الإمكانات الكامنة وبين لحظة الاكتشاف التي تظل دائمًا في جوهرها فعلًا إنسانيًا بامتياز.