الجينوم الجامعي: نحو فهم المكونات الوراثية للتعليم العالي
د. الاء طارق الضمرات
12-07-2025 11:04 PM
يشهد التعليم العالي اليوم تحولات عاصفة تُطيح بالبنى الجامدة وتُعيد تشكيل ملامح الجامعة كما نعرفها، فلم تعد الجامعة مجرّد مؤسسة تمنح الشهادات وتكرّر المناهج، بل باتت كائناً معرفياً حيًّا، ينبض بالفكر، ويتنفس الابتكار، ويشيخ إذا عجز عن التكيف، وهذا التحول الجذري يُملي علينا أن نعيد النظر في الطريقة التي نفهم بها الكيان الجامعي، لا من الخارج، بل من أعماقه، فلا نكتفي بتفكيك الهياكل الإدارية أو المناهج التعليمية، بل نغوص عميقًا في البنية الوراثية للجامعات من “جينومه المعرفي” الذي يختزن أسرار الحياة المؤسسية كما تختزن الخلية أسرار الإنسان.
الجينوم الجامعي ليس مجرد استعارة أدبية، بل هو الإطار المفاهيمي الذي يمكّننا من قراءة الجامعة كوحدة حيوية تتكون من مكونات وراثية دقيقة تتحكم في مصيرها الأكاديمي والمعرفي. هذه المكونات ليست فروعًا ولا إدارات، بل رسائل وقيم وهياكل وثقافات ونُظُم، كما أنها الكود الخفي الذي يبرمج سلوك الجامعة، تمامًا كما تبرمج الشيفرة الوراثية سلوك الخلية الحية، فجامعة بلا جينوم متماسك، تشبه جسدًا بلا مناعة... هشّ أمام كل عاصفة فكرية أو تنظيمية.
تبدأ الحكاية دائماً بالرؤية والرسالة، فالرؤية الجامعية ورسالتها هي "الحمض النووي الأول" الذي تنطلق منه كل العمليات الفكرية والتنظيمية، فجامعة تملك رؤية حقيقية تشبه سفينة لها بوصلة في محيطٍ من الضباب، أما الرسالة الغامضة أو المنسوخة فهي مجرد رداء بلا روح، لا يرشد ولا يحمي، فحين تكون الرسالة مشحونة بالرؤية، ومصقولة بالسياق، تولد منها كل القيم والقرارات والمناهج، فهي صوت الجامعة الداخلي، وإن صمت هذا الصوت، ضاعت الطريق.
وتقف القيم في قلب الجينوم الجامعي كمجموعة من الجينات التنظيمية التي تضبط نبض المؤسسة، ولا تصنع القيم الحقيقية في شعارات الحوائط، بل تُبنى في المواقف الصعبة، وفي لحظات المفاضلة بين المبدأ والمصلحة، وحين تسود قيم مثل النزاهة، المسؤولية، والحرية الأكاديمية، تتحول الجامعة إلى بيئة أخلاقية خصبة تُنتج معرفة راشدة، أما في غياب هذه القيم، تتآكل الثقة، وينشأ فراغ أخلاقي لا تملؤه ميزانيات ولا استراتيجيات.
ويمثل الهيكل الإداري والبنيوي للجامعة العمود الفقري لهذا الجينوم، وليس الهيكل مسألة توزيع صلاحيات أو رُتب وظيفية فحسب، بل هو تصميمٌ للذكاء المؤسسي، فالجامعة التي تملك هيكلًا مرنًا تُماثل جسدًا يستطيع الركض والتسلق والوقوف بعد السقوط، أما الهيكل المتخشب فهو قيدٌ على العقل، ومقبرة للأفكار الجديدة، والابتكار لا يعيش في السردين الإداري، بل في المساحات التي تسمح بالتنقل والتجريب والمساءلة.
كما تتشكل الثقافة الجامعية كذاكرة جينية طويلة الأمد، تحمل بصمات من سبق، وتترك آثارًا لمن يلحق. ليست الثقافة ما يُكتب في الدساتير الجامعية، بل ما يُقال في الممرات، ويُمارس في الغرف المغلقة، ويُعاد إنتاجه كل صباح بين الطلبة والأساتذة، وثقافة جامعية مشبعة بالفضول المعرفي، بالتسامح الفكري، وبالتمرد العلمي تُنتج خريجين يشبهون المستقبل، لا الماضي، أما الثقافة المسمومة بالخوف، أو المترهلة بالتقليد، فمصيرها أن تخنق الجامعة حتى وإن بدت مزدهرة على السطح.
وبالنظر إلى النُظُم الجامعية فهي الأعصاب التي تربط بين كل مكونات الجينوم، فلا قيمة لرسالة عظيمة، أو قيم راقية، إذا كانت النُظم تعاني من التخلف أو التناقض، والنظام الأكاديمي ليس مجرد تقويم أو خطة دراسية، بل هو هندسة خفية تُحدد ما إذا كان الإبداع ممكناً، أو مقموعاً، ووحدها الجامعات التي تبني نظمًا ذكية، شفافة، وقابلة للتطور قادرة على تحويل الرؤية إلى ممارسة، والهدف إلى إنجاز.
وتتطلب صيانة الجينوم الجامعي قدرة على الرصد الجيني الدقيق، تمامًا كما يفعل العلماء عند مراقبة الطفرات الوراثية، فالتغيير في الجامعة لا ينبغي أن يكون عشوائيًا أو مقلِّدًا، بل نابعًا من فهم عميق للجينات التي يجب الحفاظ عليها، وتلك التي ينبغي تعديلها أو حذفها، والطفرات المؤسسية ليست كلها ضارة؛ بعضها قد يكون قفزة تطورية تنتج عنها جامعة أكثر وعيًا وسرعة وتكيفًا، ولكن الانفجار الجيني غير المنضبط قد يُنتج جامعة مشوهة تفقد بوصلتها وأخلاقها الأكاديمية.
فالجامعات التي استطاعت الحفاظ على توازن جينومها، وتحقيق انسجام داخلي بين رسالتها وقيمها وهياكلها ونظمها، هي التي تنجو من أعاصير التغيير، وهذه الجامعات لا تعيش فقط، بل تزدهر، وتنجب عقولاً تنتمي إلى المستقبل، لا إلى الماضي، ومعيار نجاح الجامعة لا يُقاس بعدد منشوراتها، بل بقدرتها على تجديد ذاتها، وعلى تخريج أفراد قادرين على تحدي الواقع، لا تكرارِه.
وحين ننظر إلى الجامعة بوصفها كيانًا معرفيًا له جينومه الخاص، تتحول عملية الإصلاح الأكاديمي من ترميمٍ سطحي إلى جراحة دقيقة في البنية الوراثية للمؤسسة، ووحدها الجامعات التي تجرؤ على تعديل جيناتها بوعي وجرأة هي التي تستحق البقاء، أما تلك التي تتمسك بجينومها العتيق خوفًا من التغيير، فمصيرها أن تتحول إلى أحافير أكاديمية في متحف الزمن.