كيف تصوغ الجامعات خطتها الاستراتيجية؟
د.مأمون الشتيوي العبادي
12-07-2025 11:33 PM
ضرورة التخطيط في زمن التحولات
لم يعد من المقبول أن تعتمد الجامعات على أسلوب “رد الفعل” أو الاكتفاء بإدارة الشؤون اليومية دون تصور مستقبلي واضح. ففي عالم يتسم بالتغير السريع، وبتعقيد احتياجات سوق العمل، وضغط التصنيفات العالمية، وتحول مفاهيم التعليم والبحث وخدمة المجتمع، أصبح التخطيط الاستراتيجي أداةً حيوية لضمان بقاء الجامعات وتفوقها.
خلال مشاركتي كعضو في لجنة التخطيط الاستراتيجي في إعداد الخطة الاستراتيجية لجامعة اليرموك للأعوام 2026–2030، اطلعت عن كثب على المنهجيات الرصينة التي يجب أن تتبعها الجامعات في صياغة خططها المستقبلية. في هذا المقال، أقدم قراءة معمقة في كيفية بناء خطة استراتيجية جامعية فاعلة، شاملة، وواقعية.
أولًا: ما هي الخطة الاستراتيجية الجامعية؟
الخطة الاستراتيجية الجامعية هي وثيقة مرجعية تحدد الرؤية المستقبلية للمؤسسة الأكاديمية، وتُترجم هذه الرؤية إلى أهداف ومبادرات قابلة للتنفيذ ضمن إطار زمني واضح (عادة 4 إلى 5 سنوات).
تهدف هذه الخطة إلى:
تحديد توجه الجامعة المستقبلي.
توجيه الموارد بشكل أكثر فاعلية.
ضمان التميز الأكاديمي والبحثي.
تعزيز التفاعل مع المجتمع.
تحسين مكانة الجامعة في التصنيفات الدولية.
ثانيًا: المراحل الأساسية لصياغة الخطة الاستراتيجية
1. التهيئة وإعلان الانطلاقة
تبدأ العملية بتشكيل لجنة توجيهية عليا يرأسها رئيس الجامعة، وتضم ممثلين عن مختلف الكليات والوحدات، إلى جانب خبراء متخصصين من داخل الجامعة وخارجها.
يتم تحديد الأهداف الكبرى من التخطيط، ووضع جدول زمني دقيق، واختيار المنهجية المناسبة.
2. التحليل البيئي الاستراتيجي (Environmental Scanning)
يُعتبر هذا التحليل الأساس الذي تُبنى عليه الخطة، ويشمل:
تحليل SWOT: لفهم نقاط القوة والضعف الداخلية، والفرص والتهديدات الخارجية.
تحليل PESTEL: لفحص العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والبيئية والقانونية المؤثرة.
• تحليل البيانات الداخلية (نسب النجاح، البحث العلمي، التوظيف، رضا الطلبة، …).
• استطلاعات رأي شاملة تشمل: الطلبة، الأكاديميين، الإداريين، الخريجين، الشركاء.
3. صياغة الرؤية والرسالة والقيم
تُعد هذه الخطوة من أهم مكونات الخطة، إذ تُعبّر عن هوية الجامعة وطموحها.
ويُشترط في الرؤية أن تكون:
ملهمة: تعبر عن مستقبل مرغوب فيه.
واقعية: قابلة للتحقيق.
موجزة: بعبارات واضحة ومباشرة.
ثم تأتي صياغة الرسالة (Mission) التي تُحدد وظيفة الجامعة، متضمنة التعليم والبحث وخدمة المجتمع، وتُحدَّد القيم المؤسسية التي تُشكّل الثقافة التنظيمية.
4. تحديد المحاور الاستراتيجية (Strategic Themes)
يتم تجميع الأولويات في محاور استراتيجية رئيسة، مثل:
التعليم والتعلم.
البحث العلمي والابتكار.
التحول الرقمي.
الحوكمة والقيادة.
خدمة المجتمع.
الاستدامة المالية.
5. تحديد الأهداف الاستراتيجية والمبادرات (Objectives & Initiatives)
لكل محور، تُحدَّد أهداف استراتيجية واضحة، تليها مبادرات تنفيذية تفصيلية.
مثال:
المحور: التعليم والتعلم
الهدف: رفع جودة البرامج الأكاديمية.
المبادرات: مراجعة الخطط الدراسية، تطوير أدوات التقييم، تدريب أعضاء الهيئة التدريسية.
6. تصميم مؤشرات الأداء (KPIs)
لا معنى لأي خطة لا تتضمن أدوات للقياس والمتابعة. لذلك يتم وضع مؤشرات أداء كمية ونوعية، تُربط بزمن محدد ومسؤول تنفيذي، لضمان التقييم الدوري.
7. خطة التنفيذ والمتابعة (Implementation & Monitoring)
تُقسَّم الخطة إلى مراحل زمنية (سنة أولى، ثانية…)، وتُشكّل وحدات متابعة في كل كلية ووحدة، وترفع تقارير دورية إلى اللجنة العليا.
كما يُنشأ لوحة متابعة إلكترونية Dashboard لعرض التقدم بالبيانات الحية، بما يضمن الشفافية والمحاسبة.
ثالثًا: دروس مستفادة من خطة جامعة اليرموك 2026–2030
خلال مشاركتي في فريق صياغة الخطة الاستراتيجية لجامعة اليرموك، برزت عدة ممارسات ناجحة يمكن تعميمها:
1.التشاركية الحقيقية: لم تكن الخطة عملاً نخبويًا مغلقًا، بل شارك فيها المئات عبر استبانات وورش وجلسات تشاورية.
2.التخطيط على أساس الأدلة (Evidence-Based Planning): لم تُبْنَ الخطة على الانطباعات، بل على بيانات وإحصاءات دقيقة.
3.الانفتاح على المجتمع: أُخذت بعين الاعتبار آراء الخريجين، وأرباب العمل، والمؤسسات الشريكة.
4.مراعاة التصنيفات العالمية: تم مواءمة مؤشرات الأداء مع متطلبات تصنيفات مثل QS وTHE.
5.المرونة والاستجابة للتحديات الرقمية: أُدرج التحول الرقمي كمحور مستقل مع أهداف واضحة.
التخطيط ليس ترفًا.. بل شرطًا للبقاء
إن الجامعات التي لا تخطط لمستقبلها، تُجازف بأن يُكتب مستقبلها بيد غيرها.
الخطة الاستراتيجية ليست مجرد وثيقة، بل ثقافة تنظيمية، تُترجم الطموح إلى واقع، وتُحوّل المؤسسة من حالة “الإدارة اليومية” إلى “القيادة الاستباقية”.
ومن خلال تجربتي في إعداد خطة جامعة اليرموك، أؤكد أن التخطيط الاستراتيجي إذا ما أُنجز بطريقة علمية ومؤسسية، يُمكن أن يكون محركًا حقيقيًا للتغيير، وبوصلة للتميز والريادة.
عضو لجنة التخطيط الاستراتيجي في إعداد الخطة الاستراتيجية لجامعة اليرموك (2026–2030)