تمضي الكلمات أحيانًا كالسهم
أ.د سلطان المعاني
14-07-2025 10:52 PM
تمضي الكلمات أحيانًا كالسهم، لا تعود بعد انطلاقها، وتُخرج من الإنسان ما لم يُرد إظهاره، كأنّ اللسان يسبق القلب والعقل معًا. ففي لحظة واحدة، قد تنكشف نوايا مستترة، أو تنزلق عبارة لا يقصدها قائلها، فتقع موقع السيف في نفوس الآخرين. بين المقصود والمُلتبس، بين ما يُقال وما يُفهم، تنشأ مساحة دقيقة من التأويل، فيها يُمتحَن الحُكم، وتُختبر الحكمة: هل نحاسب على كل لفظةٍ تُقال؟ أم نفرّق بين الزلّة والسقطة، بين العارض والمستقر، بين ما يستوجب العذر، وما لا يُغتفر؟
ليست فلتاتُ اللسان دائمًا ابنة نيةٍ مبيّتة، ولا تُعدّ كل زلةٍ لفظية خطيئة تستوجب القصاص. بين العيب المغلّف بالكلمات، والهفوة التي تتسلل من شقوق التعب، مسافةٌ من الإدراك لا يقطعها إلا العدل والرُقي في التقدير. فالكلمة إذا خرجت بلا رقيب من عقل أو وازع من خلق، قد تفتك، لحدّتها ولما توحي به من استعلاءٍ أو استهتار أو غياب وعي بمقام اللحظة.
تكون فلتة اللسان عيبًا حين تخلع عن صاحبها ثوب الوقار، وتفضح هشاشة داخله، وتتكشّف عن جهل أو كبرياء أو احتقارٍ مستتر. هي العيب حين تُقال في مجلسٍ عامّ، أو في موضعٍ يتطلب سكينة التعبير وجلال الموقف، فتتحول إلى نافذة تطل على ما هو أعمق من اللسان: على فوضى النفس أو سوءِ النية أو ضعف التهذيب.
لكنّ الإنسان لا يُؤخذ دومًا بما لا يقصد، فكم من كلمةٍ أفلتت من فمِ متعبٍ أو خاطرٍ شارد، فظنّها الناس سهمًا مسمومًا، وهي لم تُصنع إلا من ضيق الصدر، لا من سواد القلب. هنا فقط، يليق بنا أن نلتمس له العذر. لا لأننا نبرّر الزلل، ولكن لأننا نُحسن الظن بمن لم يتّخذ الكلمة خنجرًا، ولم يُرد أن تكون سقطته مدخلًا إلى الإهانة أو الجحود.
التمس العذر إذًا لمن لم يُعرف عنه التهاون، ولم يعتد السخرية أو الجفاء. راقب سلوكه، لا لحظته العابرة. فإن خانته العبارة مرّة، ولم يخنك موقفه، فاغفر. أما إن صار لسانه موئل إساءة، وذهل عن أثر الكلمة في النفوس، فاعلم أنّ الزلة قد استحالت إلى طبع، وأنّ العيب صار خللاً في الذائقة والضمير.
الكلمة، كما تعرف، مرآةُ صاحبها، ولسانه بوابة روحه. فليت كلّ امرئٍ عرف قدر عبارته، قبل أن تفضح منه ما حاول إخفاءه.
وإذا كانت الكلمة مرآة الروح، فإن لحظة الصمت أبلغ من فصاحةٍ تنكأ الجراح. في المواقف التي تفيض بالانفعال أو الغضب، يكون ضبط اللسان أعلى مراتب الحِكمة، وتوقيرًا للآخر وللمقام. فكم من نفوسٍ انكسرت بكلمة واحدة أُطلقت دون رويّة، ثم تهاوت بعدها جسورٌ من الثقة والمودّة، ولم تفلح ألفُ اعتذارٍ في ترميمها.
وكم من إنسانٍ عجز عن التعبير فخانه لفظه، فجُعل ملامًا على ما لم يرد، وكُشف عن موضعٍ في داخله لم يكن مستعدًا لإظهاره. هنا تكون الرحمة أعلى منزلة من المحاسبة، ويكون الإنصاف امتحانًا للنضج الإنساني. فالحُكم على فلتة اللسان لا ينبغي أن ينطلق من الكلمة المجردة، وإنما من سياقها، ومن سيرة القائل، ومن مدى استعداده لتحمّل مسؤوليتها، والعودة عنها بتواضعٍ لا يقلّ عن ثقل الخطأ نفسه. هكذا فقط، لا تضيع القيم، ولا تتيه الكرامة في دهاليز سوء الفهم أو عسف الأحكام.