الوكالة التاريخية والسردية العربية
أ.د سلطان المعاني
17-07-2025 08:19 AM
تتبدّى صورة الوكالة التاريخية في السرديات الشعبية والتاريخية كاستعارة مركزية لفكرة الخلاص الجماعي عبر فرد استثنائي يتجاوز المألوف، ويحتل موقع القيادة في لحظات المصير الحرج، فتتجه الأنظار إلى "المنقذ" أو "البطل" باعتباره محور الحلّ، وتتوارى القدرة الجماعية خلف الحاجة إلى معجزة فردية. هكذا، تُرسم ملامح القائد الأسطوري في لحظات الدمار والانهيار، فيستمد وجوده من لحظة الفوضى، كما لو أن الجماعة لا تستعيد تماسكها إلا عبر عبوره ــ البطل ــ نحوهم، ليعيد ترتيب شتاتهم.
في قلب السردية، تبدو الجماهير كتجمّعٍ معلَّق الإرادة، ينتظر إشارة الراعي أو زفرة المنقذ، في طقسٍ يتكرّر من جيل إلى آخر في الأدب الشفوي والمدوّن، حيث تُسند إلى البطل وكالة جمعيّة شبه مطلقة لإعادة التوازن، في مواجهة قوى الفوضى أو العدوان أو الطبيعة الغاشمة. يتكرّس هنا مفهوم "الوكالة التاريخية" كتفويض وجودي يتجاوز حتى الإرادة الجماعية نفسها، فالخلاص لا يتحقق إلا عبر الوسيط المنقذ، سواء كان أسطورياً، أو دينياً، أو سياسياً في الأزمان الحديثة.
غير أن هذه الصورة الرمزية للبطل المنقذ التي تظل تستهوي الخيال الجمعي وتمنحه الوعد بالخلاص، تبدو اليوم ــ في الواقع العربي الراهن ــ وقد دخلت طور التآكل والتشظي. فالعالم العربي يعيش اليوم لحظة انكسار في معنى "الأمة" ذاته، تتقاسمها القوى الإقليمية والدولية، وتعيد رسم خرائطها، وتدفع بمكوناتها نحو انقسامات عمودية لا تخطئها العين: هويات فرعية متنازعة، ولاءات جزئية، وصيغ استقطاب جديدة تتجاوز الحدود التقليدية للهوية الجامعة.
وفي هذا المناخ المشظّى، لم يعد نموذج البطل المخلِّص قابلاً للاستدعاء بنفس القدر من الإجماع أو الإيمان الجمعي؛ صار المنقذ، إذا ظهر، محل سؤال وشك، بل حتى محل ريبة أحياناً، إذ تحيط به علامات الاستفهام أكثر مما يلتف حوله الأتباع. أضحى المجتمع ذاته ــ في كثير من سياقاته ــ مشكوكاً في وحدته الداخلية، فلم يعد قادراً على تفويض أحد بمهمة الإنقاذ نيابة عنه، لأن فكرة "من ينقذ من؟" قد تكسّرت عند أول امتحان للثقة، في زمن تصارع فيه الوكالات وتضيع فيه الحدود بين الوطني والقومي والطائفي والعرقي، وتتداخل فيها أيادي الخارج بالداخل.
لقد انتقلت السردية من انتظار البطل إلى التشكيك في إمكانية حضوره، ومن تصوّر الأمة كوحدة مصير إلى تقبّل الهويات المجزأة التي تعجز عن صياغة سردية خلاص موحدة. وبذلك، أصبحت صورة الوكالة التاريخية في المشهد العربي اليوم مشوبةً بوعيٍ جديد: وعيٍ بانكشاف بنية التفويض نفسها، وبأن البطل قد يغدو هو الآخر مشروعا خارجيا أو انعكاساً لفشل الإرادة الجماعية في خلق صيغ جديدة للتماسك الذاتي، أو لعلّ التاريخ، في لحظته الراهنة، يجرّب التخلي عن فكرة "البطل المنقذ" لمصلحة إعادة ابتكار أفقٍ أوسع للإرادة المشتركة، أو لعلّه ــ في خضم هذا التشظي ــ يعيد طرح السؤال ذاته: من يمنح من وكالة الإنقاذ؟ وهل ما يزال ثمة من ينتظر خلاصا يتجسد في فرد؟
هكذا تنفتح صورة الوكالة التاريخية، بين السردية والأسطورة، وبين مأزق الواقع وتطلعات المستقبل، على احتمالات التأويل ومساءلة الموروث ذاته: هل نملك اليوم ترف انتظار البطل، أم أن علينا ـ كجماعات متصدعة ـ أن نبحث عن نماذج جديدة للفعل التاريخي تُعيد توزيع الوكالة على الجميع بدل أن تحصرها في فردٍ يتهدده الشك أكثر من أي وقت مضى؟