في خضم التحديات التي تواجه المجتمعات الحديثة، يبرز سؤال جوهري: كيف نبني مجتمعات قائمة على العدالة الاجتماعية وتوزيع الحقوق والواجبات بشكل متوازن؟ الجواب يكمن في فهم عميق لثنائية تبدو متناقضة للوهلة الأولى، لكنها في الحقيقة مترابطة: الدين والتموين.
الدين، في جوهره، رسالة أخلاقية تدعو إلى العدل والإحسان والمساواة بين البشر. لكنه حين يتحول إلى أداة بيد السياسيين أو الجماعات الباحثة عن نفوذ، يصبح التديّن الزائف أخطر ما يواجه المجتمع. هذا التدين السطحي يخلق مجتمعًا منقسمًا، يُفرّغ الدين من قيمه، ويحوّله إلى شعارات براقة تخفي وراءها مصالح سياسية و اقتصادية ضيقة. وعندها، تصبح مفاصل الدولة أسيرة خطاب ديني مزيف، لا هدف له سوى السيطرة على الفكر الجمعي للناس.
وفي المقابل، التموين بمفهومه الشامل لا يعني مجرد تكديس المواد الغذائية في المستودعات أو تنظيم طوابير أمام الأفران. التموين الحقيقي هو تموين فكري، سياسي، اقتصادي، وأمني، قبل أن يكون تموينًا غذائيًا. عندما نؤمّن للفرد غذاءه الفكري بالعلم، ونمده بزاد المعرفة، فإننا نحصنه من الجهل والتطرف. عندما نضمن تموينًا اقتصاديًا عادلاً، نحاصر الفقر، ونفتح أبواب الأمل، ونغلق نوافذ الفساد. التموين الفكري والسياسي هو الذي يصنع المواطن القادر على اتخاذ قراراته بعيدًا عن سطوة الشعارات الدينية الزائفة التي تستغل ضعفه وحاجته.
اليوم، نحن بحاجة إلى ثورة في المفاهيم: أن ندرك أن بناء مدرسة واحدة قد يقي مجتمعًا بأكمله من الانهيار، أكثر مما قد تفعله عشرات المساجد أو الكنائس. لأن المدرسة الغنية فكريا تمثل التموين الفكري الحقيقي، حيث تُزرع قيم المواطنة، التفكير النقدي و النقاش الحضاري. وعندما نستثمر في التعليم، فإننا نزرع بذور العدالة الاجتماعية، لأن العلم هو البوابة الأولى لتكافؤ الفرص.
في المقابل، حين ينشغل المجتمع بمظاهر التدين الشكلي، وينسى جوهر الدين الذي يحض على العلم و المحبة ، نصل إلى مرحلة خطيرة. مرحلة يصبح فيها الدين وسيلة لتبرير الفقر، وللتغطية على فشل الحكومات في توفير أبسط مقومات الحياة. وبهذا، يفقد الدين رسالته السامية، ويُختزل إلى أداة هيمنة أو تجريح .
العدالة الاجتماعية لا تُبنى على الشعارات ولا على الصلوات وحدها، بل على توزيع الحقوق والواجبات بشكل عادل. على ضمان أن يحصل كل إنسان على حقه في الغذاء، السكن، التعليم، والرعاية الصحية.
عندها فقط يمكننا الحديث عن مجتمع متماسك، قوي من الداخل، محصن من الفساد والتطرف.
خلاصة القول: بين الدين والتموين علاقة وثيقة. الدين يدعو إلى تموين شامل: غذاء للفكر، حماية للكرامة، وعدالة في توزيع الثروات. والتموين الحقيقي يحقق مقاصد الدين من خلال بناء الإنسان، لا من خلال استغلاله. حين نفهم هذه المعادلة، نضع أقدامنا على طريق النهضة الحقيقية، ونكسر قيود التديّن الزائف الذي دمّر مجتمعات كثيرة من الداخل و مزج بين الدين و التموين و حقق لنا " الديون"...