عُقدت اليوم ندوة تاريخية مهمة في المكتبة الوطنية بمناسبة ذكرى استشهاد المغفور له، بإذن الله، الملك عبد الله الأول بن الحسين، شارك فيها باحثون ومؤرخون متميزون، سلّطوا الضوء على محطات مفصلية من حياة هذا القائد المؤسس، الذي صنع مجد الدولة الأردنية وسط ظروف وتحديات قلّ نظيرها.
في هذه الذكرى العظيمة، تستعاد إلى الذاكرة تلك الظروف الصعبة والتحديات الكبرى التي واجهتها إمارة شرق الأردن ثم المملكة لاحقًا، في ظل سطوة المستعمرين الإنجليز والفرنسيين، إلى جانب أوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية متشابكة.
فبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، عمدت القوى الاستعمارية إلى تقاسم الإرث العثماني وفق مصالحها، فجاء وعد بلفور عام 1917 كمشروع استعماري يهدف إلى إقامة “وطن قومي لليهود” في فلسطين. إلا أن الملك المؤسس، بحنكته السياسية وبعد نظره، تمكّن من استبعاد شرق الأردن من هذا المخطط الخطير، وواجه الضغوط البريطانية والاسرائيلية بمزيج من الحزم والدهاء السياسي، حتى فرض واقعًا سياسيًا جديدًا جعل من الأردن كيانًا عربيًا مستقلاً غير مشمول في ترتيبات وعد بلفور.
وفي ذاكرة التاريخ العربي، تظل سيرة الملك عبد الله الأول بن الحسين علامة فارقة في مسيرة بناء الدولة وتحقيق الاستقلال وترسيخ الكرامة. فقد وُلد عام 1882 في مكة المكرمة، وترعرع في كنف أسرة هاشمية عريقة، حاملة لمشروع نهضوي عربي. وكان أحد قادة الثورة العربية الكبرى إلى جانب والده الشريف الحسين بن علي، سعيًا لتحرير الأرض والهوية من نير الاحتلال العثماني.
استعادة القرار الوطني من الاختطاف السياسي
لم تكن مهمة التأسيس سهلة؛ إذ حاولت جهات حزبية، وعلى رأسها ما يسمى بـ”حزب الاستقلال”، اختطاف القرار السياسي في الأردن الوليد وتوجيهه نحو مسارات لا تعبّر عن إرادة الشعب ولا تخدم المشروع الوطني. لكن عبد الله الأول واجه هذه المحاولة بحزم وبصيرة، وأعاد زمام الأمور إلى الدولة الناشئة، رافضًا أن يكون الأردن منصة لتجاذبات إقليمية أو صراعات شعاراتية، كما أشار إلى ذلك بعض الباحثين في الندوة اليوم.
دمج العشائر وبناء الوحدة الوطنية
أدرك الملك المؤسس أن بناء الدولة يتطلب وحدة وطنية راسخة، فعمل على دمج العشائر الأردنية والعربية في مؤسسات الدولة، إدارية وعسكرية. وبحكمة القائد، أرسا مبدأ الولاء للدولة والهوية الجامعة فوق كل الولاءات الضيقة، فأصبحت الهوية الأردنية نسيجًا متينًا يجمع الجميع تحت راية واحدة.
كما ساهم - رحمه الله - في إجراء المصالحات بين القبائل العربية في شرق الأردن ونجد والحجاز والعراق، فكانت تلك التسويات من أوائل عوامل السلم الأهلي، ومهدت الطريق لتأسيس دولة المواطنة، القائمة على الانتماء والعدل.
انفتاح على الخبرات واللجوء الآمن
فتح الملك عبد الله الأول أبواب المملكة للخبرات والكفاءات العربية القادمة من فلسطين، وسوريا، ولبنان، والعراق، ومصر. فوجد الأطباء، والمهندسون، والمعلمون، والمثقفون في الأردن بيئة خصبة للعمل والعطاء، وساهموا في النهضة التعليمية والصحية والإدارية المبكرة للدولة.
كذلك، شكّل الأردن ملاذًا آمنًا لكل من ضاقت بهم الأرض. فقد استقبل الشركس والشيشان والدروز والمسلمين الفارين من الاضطهاد في القوقاز والبلقان، فاستقروا على ترابه، واندمجوا في مجتمعه، وصاروا جزءًا أصيلاً من نسيجه الوطني، وقدموا إسهامات ملموسة في مؤسسات الدولة وفي الدفاع عنها.
الاستقلال ومكانة القدس
جاء إعلان استقلال المملكة الأردنية الهاشمية عام 1946، ليكون تتويجًا لجهود المؤسس في بناء الدولة. وتُوّج عبد الله ملكًا عليها، ليفتتح فصلًا جديدًا من مشروع النهضة العربية. ورغم التحديات الكبرى، لا سيما بعد نكبة فلسطين عام 1948، وقف الملك المؤسس بشجاعة ومسؤولية، فقاد الجيش العربي للدفاع عن القدس، وحافظ على ما أمكن من الأرض الفلسطينية، وضُمّت الضفة الغربية إلى المملكة في خطوة تاريخية بالغة الأثر.
لكن يد الغدر لم تُمهله طويلًا، فاغتالته رصاصات الإرهاب وهو يهمّ بأداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى عام 1951، فسقط شهيدًا على عتبة أولى القبلتين، حاملاً همّ القدس في قلبه حتى آخر لحظة من حياته.
إرث خالد ومستقبل آمن
رحم الله الملك المؤسس عبد الله الأول، الذي بنى من ركام الاستعمار كيانًا عربيًا مستقلًا، وحوّل الأردن من فراغ سياسي إلى دولة قائمة على الاعتدال والاستقرار، ومنطقة جذب للكفاءات وملاذ للباحثين عن السلام والكرامة. إرثه حاضر في مؤسسات الدولة، وفي وعي الشعب، وفي وحدته التي بقيت صامدة رغم عواصف الزمان.
وبعد استشهاد الملك المؤسس، وقف الشعب الأردني صفًا واحدًا لحماية منجزه، فتسلّم الراية المغفور له الملك طلال، باعث الدستور الأردني، ثم المغفور له الملك الحسين، باني نهضة الأردن الحديث. واليوم، يمضي الأردن بقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، حفظه الله، الذي يجمع بين الحنكة والحكمة والإنسانية، ويشاركه حمل الأمانة ولي عهده الأمين، صاحب السمو الملكي الأمير الحسين بن عبد الله، حفظهما الله ورعاهما.
عاشت المملكة الأردنية الهاشمية… وطن الخير، والكرامة، والسلام.