قراءة تحليلية في لقاء الملك ورئيس الوزراء الكندي
د.مأمون الشتيوي العبادي
22-07-2025 08:25 AM
* دبلوماسية أردنية هادئة، وشراكة كندية حذرة في زمن التحولات
في خضم مرحلة مضطربة تمر بها منطقة الشرق الأوسط، تبرز زيارة جلالة الملك عبدالله الثاني إلى العاصمة الكندية أوتاوا ولقاؤه برئيس الوزراء الكندي مارك كارني بوصفها حدثًا سياسيًا يعكس عمق العلاقات الثنائية من جهة، ويكشف أيضًا عن تحولات في السياسة الخارجية الكندية من جهة أخرى.
لقد كان اللقاء، في ظاهره، لقاء عمل رفيع المستوى، غير أنه حمل في طياته أبعادًا استراتيجية تتجاوز حدود العلاقات الثنائية، ليؤكد على أن الأردن ما يزال لاعبًا إقليميًا مهمًا، وأن كندا بدأت تُعيد تموضعها الدولي، لا سيما في منطقة تعاني من فراغات سياسية واحتقانات غير مسبوقة.
كندا تبحث عن دور… والأردن بوابة موثوقة
على الرغم من أن السياسة الخارجية الكندية غالبًا ما تُوصف بالهادئة والمتحفظة، فإنها، ومن خلال هذا اللقاء، أرسلت إشارات واضحة بأنها راغبة في استعادة دورها الدولي، ولو بشكل تدريجي. والمثير للاهتمام أن اختيار الأردن بوابة لهذا الدور لم يكن صدفة، بل استند إلى قراءة دقيقة لطبيعة الدور الأردني القائم على الاعتدال، والموثوقية، والعلاقات المتوازنة مع مختلف الأطراف الدولية.
الأردن الذي ما يزال يحتفظ بعلاقات استراتيجية مع الغرب، ومع أطراف إقليمية متعددة، أثبت في أكثر من محطة أنه شريك يعتمد عليه، لا سيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ومكافحة الإرهاب، واستضافة اللاجئين.
دعم مالي… ولكن الرسائل أهم
أعلنت كندا عن دعم مالي بقيمة 28.4 مليون دولار كندي للأردن، وهذا بلا شك دعم مرحّب به، لكن المراقب للمشهد يدرك أن القيمة السياسية للزيارة تفوق المبلغ المُعلن. فمجرد تخصيص هذا الدعم، في ظل أوضاع اقتصادية متوترة عالمياً، يشير إلى أن كندا ترى في استقرار الأردن مصلحة مباشرة، سواء في بعده الإنساني أو الجيوسياسي.
فلسطين الحاضرة دائمًا
لم يغب ملف غزة والضفة الغربية عن أجندة اللقاء، بل تصدر المشهد. الملك عبدالله الثاني، الذي لطالما تبنى موقفًا واضحًا وثابتًا من القضية الفلسطينية، أعاد التأكيد على ضرورة وقف إطلاق النار الفوري في غزة، وعلى أهمية حل الدولتين كخيار لا بديل عنه لتحقيق السلام.
هذه الرسائل، التي وجهها من أوتاوا، تؤكد أن الأردن لا يزال يرى نفسه مدافعًا أول عن حقوق الفلسطينيين، حتى في أوقات التراجع العربي، والانشغال الدولي، والتطبيع المتسارع.
دبلوماسية الصوت العاقل
من خلال هذا اللقاء، وبلغة هادئة بعيدة عن الخطاب الحاد أو الشعارات، يمارس جلالة الملك عبدالله الثاني سياسة “الصوت العاقل” في منطقة يعلو فيها صراخ المدافع وهدير الشعارات المتطرفة. وهي السياسة ذاتها التي جعلت من الأردن شريكًا مطلوبًا في دوائر صنع القرار الدولية، ووسيطًا محترمًا في الأزمات.
ما الذي يمكن أن يتغير بعد هذه الزيارة؟
من غير المتوقع أن تُحدث هذه الزيارة اختراقًا فوريًا في أي من ملفات الشرق الأوسط، لكن ما يُمكن البناء عليه هو التالي:
1. تعزيز الحضور الكندي في المنطقة: من خلال الأردن، قد تبدأ كندا في صياغة سياسة خارجية أكثر فاعلية وإنسانية تجاه ملفات الشرق الأوسط.
2. رفع مستوى التعاون الاقتصادي والتنموي: وهو أمر في غاية الأهمية في ظل التحديات الاقتصادية التي يواجهها الأردن.
3. خلق تحالفات دبلوماسية هادئة: ترتكز على القيم المشتركة، ورفض العنف، والدفع نحو السلام.
اللقاء بين جلالة الملك عبدالله الثاني ورئيس الوزراء الكندي ليس مجرد اجتماع بروتوكولي، بل هو تأكيد جديد على أن الأردن ما يزال يمتلك زمام المبادرة السياسية، وأن دولة كندا – رغم بعدها الجغرافي – تدرك أهمية بناء الجسور مع شركاء عقلانيين في زمن مضطرب.
في السياسة، الهدوء لا يعني الضعف، والدبلوماسية ليست رفاهًا، بل أداة للتأثير العميق والبناء الطويل المدى، وهو ما أتقنه ويتقنه جلالة الملك عبدالله الثاني في هذا اللقاء كما في غيره.