facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




يموتون جوعا!


أ.د سلطان المعاني
22-07-2025 12:24 PM

يموتون جوعًا في عالم يفيض بالخيرات. أطفال يموتون في لحظة ولادة، لم يعرفوا من الحياة سوى وجع البداية ونهاية بلا معنى. أمهات جف ضرعهن وتحجرت الدموع في أعينهن، يراقبن أجساد أطفالهن تذبل دون حيلة. صحفي يروي الخبر بمرارة ويقول على الهواء: "أنا جائع". هذا ليس عنوانًا صحفيًا ولا مبالغة إعلامية، بل هو اعترافٌ قاسٍ بعار البشرية. ففي الجانب الإنساني، تتكسر في هذه المأساة كل المفاهيم عن الكرامة والحق في الحياة. صار الجوع جرحًا في الروح واغتيالًا للأمل. أن تموت وأنت تتوسد الانتظار والطعام خلف الأسلاك، يعني أن الإنسانية بكل مؤسساتها قد خذلتك. ما معنى أن يعيش نصف العالم في وفرةٍ تُرمى بقاياها في القمامة، بينما النصف الآخر يصارع الموت من أجل كسرة خبز أو شربة ماء؟

لقد فقد العالم مرآته على الصعيد الأخلاقي. من يمنع الطعام عن الجائعين؟ من يصادر المساعدات ويعرقل وصولها؟ من يرى في ضعف الطفل ودمعة الأم سلاحًا في معركة النفوذ والمصالح؟ أي أخلاق هذه التي تجعل حقوق الإنسان مجرد شعارات للاستهلاك الإعلامي؟ كيف أصبح الضمير العالمي مُحصنًا ضد كل هذا العار؟ إذا كان هناك ما يُسمى حضارة اليوم، فهي حضارة القشور والمظاهر الخادعة، حضارة تجميل البشاعة وإخفاء الجرائم خلف واجهات براقة.

إنّ هذه المأساة وصمة عار في جبين الأنظمة والحكومات والمؤسسات الدولية. تتحدث الدول عن سيادتها ومصالحها، وتُعقد المؤتمرات وتُرفع التقارير، بينما يستمر الحصار وتُمنع القوافل وتُصادر صناديق الدواء والغذاء عند المعابر. القرارات السياسية هنا إخفاقات، تحولت إلى أدوات قتل بطيء وأسلحة دمار غير معلنة. أليس هذا الجوع جريمة متعمدة بقرار سياسي؟ أليس العالم كله شريكًا حين يكتفي بالفرجة؟
أية حضارة هذه التي تتباهى بإنجازاتها التكنولوجية وهي تعجز عن إيصال رغيف خبز لطفل يحتضر؟ أية ثقافة هذه التي تكتب آلاف الكتب عن الرحمة والإنسانية، لكنها تظل عاجزة عن إنقاذ أم تنتظر أن يعود الحليب إلى صدرها؟

هنا تتعرّى القيم، وينكشف الزيف. ليس هناك عالم متحضر أمام هذا الجوع، هناك عارٌ إنساني وسياسي وأخلاقي، سيظل يلاحق ضمائر الجميع، إن بقي في القلوب بقية ضمير.

هذه المأساة ليست جديدة في التاريخ الإنساني، لكنها اليوم أكثر قسوة لأنها تحدث أمام عدسات الكاميرات وفي عصر العولمة والاتصالات الفورية. لم يعد الجوع خفيًا أو بعيدًا عن العيون، فقد أصبح فضيحة تُبث مباشرة إلى كل بيت. في الماضي، كانت الكوارث تُخفى خلف الجدران، أما اليوم فالعالم يرى ويسمع ويعرف، ثم يختار الصمت كأن الأمر لا يعنيه.

والخوف الأكبر أن تتحول هذه الكارثة إلى أمر عادي، يعتاد الناس على صور الأجساد الهزيلة والعيون الغائرة، وتصبح المأساة خلفية دائمة للأخبار، لا تثير سوى لحظة عابرة من الشفقة. إذا استمر هذا التجاهل، فسوف ننحدر جميعًا نحو مستقبل بلا إنسانية، حيث يصبح الجوع هو القاعدة، والرحمة هي الاستثناء النادر. سنصبح أجيالاً بلا ذاكرة حية، تسكنها الصور المؤلمة دون أن تهتز لها القلوب، ونعتاد على موت البراءة كل يوم كأنها خبرٌ عابرٌ في نشرة المساء.

إن استمرار الصمت والجمود سيعني ببساطة أن العالم قد فقد روحه، وأن الحضارة التي نتغنى بها لم تعد سوى كلمات جوفاء تتردد في أروقة المؤتمرات. مستقبل الإنسانية اليوم على المحك؛ فإما أن نعيد تعريف معنى الإنسان وننقذ الجائعين، أو نستسلم للوحشية التي تلتهمنا قطعةً قطعة حتى نفقد آخر ملامح الرحمة في وجوهنا.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :