facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




مهرجان جرش في شُعلته التاسعة والثلاثين


أ.د سلطان المعاني
26-07-2025 11:47 AM

يمشي الزائر في جرش كما يمشي في سرداب الزمن، إذ تفتح المدينة العتيقة أبوابها للدهشة في كل منعطف، وتدعو القادم إليها أن يتحول إلى أثر يمشي بين الآثار، جسداً يختبر الحجر ويستنطق المسافة بين الأعمدة. في كل عام، وحين يدنو الصيف من ذروته، تتزين جرش بمهرجانها، فتغدو المسارح أطيافاً للفرح، والساحات مرآةً لذاكرةٍ تتداخل فيها أصوات الرومان والعرب، صدى المواكب والفرسان، وصخب الشعراء وهم ينشدون للحب والحرية والجراح القديمة.

ثمة ما يميز مهرجان جرش في نسخته التاسعة والثلاثين، فقد بدا كأن المدينة القديمة كلها تنهض من سباتها الحجري، وتستعيد وهجها القديم، فتتماهى الأزمنة في رواق الأعمدة الكورنثية، حيث يُحمل الفرح في الهواء كما تحمل الريح أصداء المواويل على المسرح الشمالي ويرجع صداه في الجنوبي. تلتف المدرجات حول جسد الحكاية، يشتبك الضوء مع صوت العود، وينبض المكان بأقدام الجمهور القادم من مدن وقرى بعيدة، ليعيش طقساً احتفالياً يمتد بين العتيق والمعاصر، بين جدلية الزهو والفقد، وبين وميض النصر ووجع الحزن والجوع والموت.

تحتضن المسارح، تلك البقع الحجرية التي صقلها التاريخ، كل مساء وجوهاً جديدة، أصواتاً تملأ الفراغ بالحلم، جوقات موسيقية تنسج من الصدى جدارية للبهجة. يتهادى المهرجان بين الشوراع المبلطة، تلك الممرات المرصوفة التي شهدت مواكب النبلاء وجنود الإمبراطوريات، والتي صار يمر فوقها اليوم شاعر أو موسيقي أو طفل يبحث عن ظل أبيه بين الدكاكين القديمة. هنا تتجاور الدكاكين الصغيرة، بأبوابها الخشبية وسقفها المنخفض، مع رائحة القهوة والبخور، وتنسج مع جمهور المهرجان خيطاً من الحميمية والحكايات، كأن المكان يصر على أن يظل حياً نابضاً في قلب كل زائر.

على الأطراف، تلوح بوابات النصر شاهقةً فوق الشارع الرئيسي، تذكر العابرين بأن النصر في هذه المدينة ليس غلبةً عسكرية بقدر ما هو انفتاح أزلي على الحياة والفن والشعر. وتحت تلك البوابات، يسير جمهور جرش كأنهم على موعد مع التاريخ، يلتقطون الصور عند الأعمدة التي ظلت واقفةً تحرس الزمن، أو عند اسطبلات الخيل التي كانت يوماً ساحةً للفروسية وباتت اليوم مرآة لذاكرة متداخلة: بين سحر الماضي واندفاعة الحاضر.

وللمهرجان شعلة رمزية، توقد مع انطلاقته كل عام، تعلن عن بدء طقس احتفالي جديد، يوقظ الحجارة من صمتها ويمنح الأمكنة صوتاً.

حول الشعلة تتجدد طقوس الفرح، يغني العاشقون وينشد الشعراء وترتفع أصوات الجماهير، لتصير الموسيقى لغةً جامعة، تشد أوتار القلب وتنفض عنه غبار الحياة اليومية. ولأن المكان، حين يحيا، يصبح قادراً على أن يستدعي من غياهب النسيان حتى أكثر الجراح إيلاماً، يعود الجرح الفلسطيني، يحضر في الأغنيات، في القصائد التي تلهج بالحنين إلى الوطن، في أصوات المنشدين التي تبحّ وهي تردد أسماء القرى، وحكايات النكبة، وتعدّد الراحلين.

في مهرجان جرش تتداخل مساحات الطراد الواسعة مع الوجوه الجديدة، فيتجاور المسافرون مع أبناء المدينة الأصليين، يمتزج الضيوف مع أصحاب الدكاكين والباعة، وتتماهى الحدود بين الممثلين والمتفرجين. هنا كل واحد يجد لنفسه زاوية من الزمن، إما على مصطبة حجرية، أو في ظل عمود كورنثي شامخ، أو في زقاق ضيق تعبق فيه رائحة الماضي وتتشابك فيه الأصوات والأمنيات.

هكذا يظل مهرجان جرش طقساً يتجدد مع كل دورة، يحتفل بالموسيقى والشعر والفن، يحتفي بالحياة نفسها، وبقدرة الناس على إعادة خلق الفرح، رغم ما يثقل القلب من هموم وجراح. هو مهرجان يتجاوز الحدود الجغرافية لمدينة صغيرة في الشمال الأردني، ليصبح مساحة للقاء العربي والإنساني، وساحة تتلاقى فيها الأحلام مع الأوجاع، وتنهض من بين الحجارة أغنية تقول: نحن هنا، لا نزال قادرين على صنع الحياة من الرماد.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :