حين يخدعنا العقل ونحن نُقسم أننا نتذكر الحقيقة...
في كل مرة نسترجع فيها لحظة من الماضي، نحن لا نفتح أرشيفًا مغلقًا، بل نعيد تأليف القصة، بحروف جديدة، بمشاعر مختلفة، وربما بنهاية لم تكن أصلًا هناك.
"أنا متأكد… كنت هناك، هو قال كذا...، وعمل كذا، رأيت كل شيء!"
كم مرة سمعنا هذه الجملة تُقال بثقة مطلقة؟ وكم مرة كنا نحن من قالها اقصد انا؟
الحقيقة أن لا شيء يبدو أكثر إقناعًا من ذاكرتنا، ولا شيء أكثر قابلية للخطأ منها.
المخ لا يتعامل مع الذكريات كصور فوتوغرافية، بل كقصص تُروى من جديد في كل مرة، تتشكل بتأثير الحالة النفسية، والمزاج، والمعتقدات، والاحتياجات العاطفية في اللحظة الراهنة.
تخيّل أن الذكريات مكتوبة على "رغوة كابتشينو" داخل الدماغ… كلما حاولت قراءتها، تشوّشت بعض الحروف، انزلقت سطور، وربما اختفى شيء وظهر غيره.
نحن لا نتذكّر الماضي كما كان… بل كما يُناسبنا أن يكون.
قد نُضيف أحداثًا لم تحدث، أو نُضخّم مواقف، أو نُسقِط مشاعر لم تكن أصلًا بتلك الحِدة. بل قد نُقسم على شيء، ونتفاجأ أن الواقع لم يحفظه كما نعتقد.
وهنا، المفاجأة ليست في "كذب الذاكرة"، بل في نية الدماغ الطيبة.
نعم، الدماغ لا يُحرّف الذكرى بدافع الخداع، بل بدافع الحماية.
هو يعيد ترتيب السرد، لا ليضللنا، بل ليُبقي توازننا النفسي قائمًا. إن شعرنا بالذنب، يصنع رواية تُخفف وطأته. وإن احتجنا إلى تبرير، يُعيد تشكيل الماضي بما يلائم حجّتنا.
بل قد يدفن ما لا يُحتمل في أعماق اللاوعي، ويتركنا نعيش بهدوء.
كل مرة نسترجع فيها ذكرى، نحن لا نُخرجها من درج مغلق، بل نُعيد رسمها على لوح الطباشير. نُعدّل، نحذف، نضيف… ونُقسم: "هذا ما حدث فعلًا."
في الواقع، ما نتذكره ليس دائمًا ما حدث... بل ما أراد دماغنا أن نتذكّره.
والمثير أكثر، أن المخ لا يهتم بالدقة بقدر ما يهتم بما يحمل المعنى.
وهذا ما سيناقشه على ما اعتقد الصديق إبراهيم غرايبة في كتابه الجديد "المعنى"، سيناقش كيف يتدخل العقل في إعادة تشكيل كل ما نعتقد أننا نعرفه عن ذواتنا وماضينا.
وهكذا، نعيش بنسخة "محسّنة" من ماضينا…
تمنحنا القدرة على الشفاء أحيانًا، والتقدّم، والاستمرار في رواية القصة.
لكن هذا لا يمنع من تحذير بسيط:
لا تثق بذاكرتك كما لو كانت شاهدًا محايدًا.
الذاكرة ليست أرشيفًا… بل حكاية مرنة.
تُكتب وتُعاد كتابتها، كلما احتجنا أن نصدّق شيئًا.
ففي كل مرة تقول فيها: "أنا أتذكر تمامًا..."
ربما من الأفضل أن تُضيف:
"... أو على الأقل، كما يُريد عقلي أن أتذكّر."
في النهاية…
الذاكرة لا تكذب، لكنها تُجمِّل.
* خبير التدريب والتطوير / كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية