السباق نحو الهاوية نبوءة سوداوية، ولعله توصيف دقيق لحالة عالم استُُُنفِد فيه العقل وتَقهقر فيه المنطق، حتى غدت الإنسانية تتدحرج صوب القاع، وقد فقدت بوصلتها الأخلاقية وتحوّلت الدبلوماسية إلى مجرد قناع هشّ لوجوه تزداد قبحًا كلما سقطت ورقة توت. إنّه زمن اللامعقول: حيث تبدو المصالح أنيابًا بارزة، والحقائق طيّعة في يد القوة، والعالم كله ملعب مفتوح لغطرسة المركز وتلاعبه بمصائر الشعوب.
تُشبه السياسات الغربية اليوم تروسًا صدئةً في آلة ضخمة؛ كلما تعطّلت أو صرخت عجلاتها، أمعن أربابها في الدفع نحو مزيد من العنف والعبث وابتكار الأزمات. ليس ثمّة حاجة إلى مبرّر أو منطق، فالقوة وحدها هي القانون، والتاريخ هو ساحة تصفية حسابات مؤجلة، والضحايا مجرد أرقامٍ تتناثر على شاشات الأخبار، سرعان ما تطويها موجة جديدة من الأحداث المفبركة أو الكوارث المصنوعة عمدًا.
في هذا العالم المعطوب، يغدو المنطق الأخلاقي نوعًا من الترف، ومحاسبة الذات علامة ضعف في حضرة "السيد الأبيض" الذي لا يتورع عن سنّ قوانين على مقاسه، ثم إعادة تشكيلها حين يضيق بها ذرعًا. ثنائية الحق والباطل فقدت ملامحها، إذ غُيبت بفعل الدعاية المركّزة، والإعلام الموجّه، وصناعة الرأي العام الذي يُدجَّن حتى يُهشَّ بعصا الخوف أو الجزرة الزائفة للحرية.
من قال إن الغرب عقلاني؟ إنّ من يقرأ تاريخ المركزية الغربية سيكتشف أن هذا العقل لم يكن سوى وهمٍ صُنع بإتقان، مسوَّقٍ كأداة تحررٍ كوني، بينما هو في جوهره آلية لإعادة إنتاج الهيمنة وتدوير الاستبداد بمسميات براقة: "حقوق الإنسان"، "الشرعية الدولية"، "النظام العالمي الجديد". لم تكن الدبلوماسية الغربية يومًا سوى فصلٍ من فصول الخداع، وواجهة ناعمة لصراع قذر على الموارد والنفوذ. كلما اشتدّت الأزمات، كُشفت عورات اللغة وتبرّجت الفظاظة، حتى صار اللعب مكشوفًا بلا أقنعة: حصار، عقوبات، تجويع، اغتيالات، تصفية جماعية تحت بند "الدفاع عن الحضارة".
ولأن التاريخ لا يُكتب بحبر الضحايا، ويكتب بمداد الغالبين، يتفنّن الغرب في هندسة السردية: يخلع على نفسه قداسة القانون، ويبرّر القتل الجماعي بتعابير "الأضرار الجانبية"، ويحوّل المعتدي إلى ضحية عبر صنّاع رأي وإعلاميين يشربون الدم في فناجين الشاي الصباحي. لم تعد هناك حاجة إلى إتقان المسرحية، فالعالم تعلّم التصفيق حتى وهو يرى الكواليس الدامية.
لن تجد أجيالنا القادمة، في كتب التاريخ، سوى فصول من الوحل: جرائم تبررها قوانين مفصّلة، وقرارات تصاغ وفق مقاييس الربح والخسارة، وتحالفات تتغير كلما لاحت في الأفق رائحة غنيمة. سيُلعن هذا الجيل لأنه عجز عن ردع الطغيان، وسمح بانهيار القيم أمام جبروت السوق والسلاح والمصالح المجرّدة من الرحمة. كيف نطالب الإنسان المعاصر أن يكون فاضلاً وهو يرى العالم ينحدر صوب الحضيض بلا خجل ولا مقاومة؟
من المؤلم أن نرى الدبلوماسية وقد سُلبت جوهرها، فغدت أداة للتبرير، وأداة لتغطية جرائم مكتملة الأركان تحت شعارات جوفاء. وتتحول المواثيق إلى ريشةٍ في مهب الريح، تطيح بها صفقة هنا أو نفعٌ هناك، وتغدو الاجتماعات الأممية سوقًا للابتزاز العلني. لم تعد هناك خطوط حمراء، بل مساحة رمادية واسعة يتقن المركز الغربي السباحة فيها، ويُعيد فيها توزيع الأدوار، ويتفنن في قلب الحقائق واختراع الوقائع.
العالم اليوم متواطئ في جنونه. الجميع يعرف، والجميع يبرر، والجميع يصمت حين يتطلب الأمر كلمة حق. كلما غاب الضمير وتكلّس العقل الجمعي، تسارع السباق نحو الهاوية، وتضخّم وحل التاريخ، وتكاثرت اللعنات المتبادلة بين من يقتل ببرود ومن يموت بصمت. وحدها الذاكرة الإنسانية ستظل تحمل جراحها، تسجل خزي هذا العصر الذي تجرّد من صورته، وانتحر على قارعة المصلحة والانحياز والدمار. فلا خلاص إلا بوعي جديد يخلع الأقنعة عن الوجوه ويعيد الإنسان إلى مركز الأخلاق، حتى لو كان ذلك على حساب الخسارة المؤقتة. لا بد من استرداد لغة الضمير من براثن السياسة، وأن يُستعاد معنى الكرامة من بين ركام المصالح. فإما أن نعيد للعالم اتزانه وإما أن نستحق، بجدارة، لعنة التاريخ وأجيال ستنظر إلينا بازدراء، وتقرأ عنا كحكاية سقوط كبرى في زمن "اللعب القذر" بلا حدود ولا أخلاق.