السردية الأردنية المنقوصة مرة أخرى
أ.د سلطان المعاني
02-08-2025 09:47 AM
من المؤسف أن السردية الوطنية الأردنية تُبنى اليوم على انتقاءٍ واعٍ أو غير واعٍ يتجاهل عن قصد أو تقصير ركناً صلباً من ذاكرة المكان والإنسان: النقوش والرسومات الصخرية التي خلفها الأجداد في البادية الشرقية الجنوبية والشمالية الشرقية. في حين تتزاحم الأحاديث حول البطولات والرموز الشفهية والمرويات الشعبية، يقف آلاف النصوص الكتابية والرسومات الصامتة شاهداً مهملاً على حكايات أخرى ظلَّت خارج المدونة الرسمية، وكأنها منقوشة على حجر الصمت لا على صخور الصحراء. لم تكن النقوش مجرد زخارف أو تدابير فنية تفتن أعين المارين، ولكنها كانت نداءً مكتوباً عبر الزمن، عبرت به الأجيال من عصور ما قبل الإسلام حتى مطالع النهضة العربية. حملت الحروف الصفائية والثمودية والنبطية والسريانية واليونانية واللاتينية والعربية الشمالية المبكرة والأموية والعباسية ثم الإسلامية المتأخرة، تجليات الوعي، والهوية، والمعتقد، والحدث اليومي، والأمل والحنين والخوف، والأسى والمصالحة مع المصير. في هذه النقوش والرسومات، تتجلى حياة الأجداد على هيئة لُقى حيَّة من معاركهم، وأحزانهم، وسعادتهم، ورحلاتهم وطقوسهم الدينية والاجتماعية. سطَّروا فيها أسماءهم وأسماء آبائهم، ذكروا مهنهم ومعتقداتهم، توسَّلوا النجاة والغيث، ترحَّموا على الراحلين، واحتفلوا بانتصاراتهم الصغيرة والكبيرة، وناجوا معبوداتهم، واستودعوا أسرارهم الحجر، بأزاميل لا يمحوها الزمن.
لماذا، إذاً، تغيب هذه السردية الحجرية عن ذاكرة الأردن الحديث؟ لماذا يختزل الماضي في أحداث سياسية أو حكايات مكرورة بينما تعيش بلادنا على بحر من الشهادات المنقوشة على الحجارة السوداء والرمادية والصفراء الممتدة في الصحراء والمناطق والتلال والوديان؟ أليست النقوش أوثق من المرويات الشفهية وأكثر شفافية من الروايات المتأخرة التي كتبت بأثر رجعي؟ هل نتثاقل من تعددية الأصوات وثراء المعنى الذي يحمله الحجر، أم أن هذا الإرث منفي في بادية لا يصلها من في مكاتبهم يكتبون السردية في غرف مكيفة، بينما تلك التي تحت الشمس اللاهبة والتي درسنا نصوصها خارج حسبة السردية؟ إن كل حجر منقوش في الصحراء يحكي سيرة صاحب، وينسج خيطاً في نسيج الوطن الأعمق، وطن الإنسان قبل الدولة، واللغة قبل السلطة، والتجربة قبل التأويل.
تتوالى الاكتشافات في البوادي الأردنية لتكشف عن عشرات آلاف النقوش التي لم تُقرأ إلا على استحياء في صالات البحث الأكاديمي الضيق أو جُمعت في التقارير التقنية الجافة. لكن أحداً لم يجرؤ بعد على انتشالها من بعدها الإجرائي، من كونها مادة جامدة تصلح لفهرسة المتاحف، إلى بعدها السردي الاستقرائي الذي يليق بها، والذي يتيح للنص أن يتكلم ويجادل ويغني ويسأل. النقش تشكل دليلاً أثرياً ومعلومة تاريخية، والأهم من ذلك فهي شهادة روحية وثقافية ومفتاح لفهم جدلية الإنسان والمكان في الأردن. هو شريان موصول بيننا وبين أولئك الذين مرّوا هنا، عاشوا وتركوا أثرهم ثم غابوا، وبقيت أصواتهم محفورة تصدح لمن أراد أن يسمع.
الأدهى أن هذه السردية الحجرية تُقصى من مناهجنا المدرسية؛ فلا يُدرس التلميذ الأردني أن أجداده كانوا أصحاب قلم وذاكرة وحضور، وليسوا فقط رعاة أو محاربين أو عابري قوافل. لم تُوضع صورة النقش بين صور المدرسة، ولم تُترجم نصوصه في حصص الأدب أو التاريخ أو الجغرافيا. من يدرك، اليوم، أن كثيراً من معجم العربية المبكرة خرج من رحم هذه النقوش؟ أو أن أسماء القرى والوديان والجبال التي نتداولها ما هي إلا انعكاسٌ لرسائل أجدادنا المرسومة في حجرهم، يلقونها إلينا بلا واسطة ولا تدخُّل روائي أو فقيه؟ ولماذا تظل لغات الأرض في مدارسنا حية إلا لغتنا الحجرية الأم التي أنطقت الصحراء قبل أن ينطقها الورق؟
إنّ ما نخسره حين نغفل هذه النقوش هو ماضينا، وهو جزءٌ من وعينا بذاتنا، وإمكاناتنا الروحية والثقافية، وما يمكن أن يكون عليه الأردن في سرديته المستقبلية. نغفل بذلك قدرة المكان على أن يبعث فينا طاقة التجدد، وعلى أن ينقلنا من الضيق الموروث إلى رحابة المعنى الذي لا يحده رسم ولا تدوين. من أراد سردية أردنية كاملة، فلا مناص له من أن يعود إلى النقوش، إلى الأثر الصامت الذي ينتظر أن نمنحه صوتاً جديداً في حوار مع ذواتنا ومع العالم.
لا يجوز بعد اليوم أن نبني وعينا الوطني على أنصاف الحقائق أو على غربال الذاكرة الذي يسمح بمرور ما يلائم صورة الراهن فقط. آن الأوان أن نعيد الاعتبار للحجر، لنقرأ ما كتبه الأجداد على صمته، لنكمل حكايتهم لا لنختزلها. فالأردن، كما كتبه أجداده على الحجر، أوسع وأغنى وأكثر عمقاً من كل ما تحمله النشرات أو تكتبه المقررات.