الأمانة العلمية المهنية: مسؤولية مجتمعية وأخلاقية
آية عويدي العبادي
03-08-2025 09:02 AM
في زمنٍ يَسْهُل فيه الانتشار، وتَتلاشى الحواجز بين المهني والهُواة، بفعل ما أتاحته التكنولوجيا من أدوات النشر والإعلام السريع، تصاعد التساهل في استخدام الألقاب العلمية والمهنية؛ حتى غدت تُمنَح بلا ضوابط، ويُعاد إنتاج المحتوى بلا تحقُّق، وتُمنَح في كثير من الأحيان لغايات الظهور، دون سند علمي أو تأهيل حقيقي.
في زمننا الراهن، تزداد الحاجة إلى التمسك بالأمانة العلمية كقيمة أخلاقية ومهنية لا غنى عنها؛ فقد باتت هذه الألقاب تُوزَّع دون تحقُّق من الشهادة أو الكفاءة العلمية. الأخطر من ذلك أن هذه الظاهرة تُسهم في تضليل الجمهور، وتزاحم أصحاب الاختصاص الحقيقيين الذين أفنوا أعمارهم في الدراسة، ملتزمين بمنهج علمي رصين.
المختص الحقيقي هو من ينطلق من أرضية معرفية متينة، ويخضع إنتاجه للتحكيم العلمي، ويُستشهد بأعماله، ويُرجَع إليه طلاب العلم والباحثون. وهو من يحرص في محتواه على الإشارة إلى المصادر، والوفاء لجهود من سبقوه، ويُسهم بصدق في بناء المعرفة، لا في استهلاكها أو إعادة إنتاجها بصورة مشوّهة.
ما يُضاعف من خطورة هذا الواقع أن كثيرًا من لا يميّزون بين المختص والمُدَّعي؛ فيتلقّون كل ما يُقال على أنه "حقيقة"، وتُبنى عليه آراء وقرارات مصيرية، بينما يُهمَّش الجهد الحقيقي، ويُطوى تعب الباحثين الصادقين.
وما يزيد الطين بلّة، أن بعض من يدّعون التخصص يستندون إلى أبحاث ومؤلفات لروّاد حقيقيين، ثم يُعاد طرح أفكارهم دون الإشارة إليهم؛ بل قد يُنسب الجهد لغير أهله. أحيانًا، يُجادل هؤلاء "المُدَّعون" صاحب الفكرة نفسه، وهم لم يقرأوا إلا مقالة سطحية عن الموضوع، أو اقتباسًا مبتورًا.
هذا النوع من المبالغة في الادعاء لا يهدّد فقط نزاهة المشهد العلمي؛ بل يخلق بيئة مشوشة، تفتقر إلى التمييز بين من درس وبحث وأنتج، ومن استهلك وتقمّص وادّعى.
إن الأمانة العلمية التزام أخلاقي ومجتمعي، يحفظ مكانة العلم، ويحمي المجتمع من الوقوع ضحية للتضليل والمعلومات الزائفة. وغياب هذه الأمانة لا يُقوِّض فقط التخصصات؛ بل يهدم الثقة بالعلم نفسه، ويُفقد القدرة على التمييز بين الرأي والمعرفة، وبين الادعاء والاختصاص.
ومن هنا، تبرز الحاجة إلى ضبط استخدام الألقاب المهنية والعلمية، وربطها بالمؤهلات الحقيقية.
إن الأمانة العلمية ليست خيارًا؛ بل ضرورة لحماية جوهر التخصصات، وصيانة جهد الباحثين، وتقديم معرفة دقيقة.