من "العجز المتعلم" الى الفعل المقاوم..
معركة الوعي في زمن الإبادة في غزة ...
في علم النفس السياسي والاجتماعي، يُعرف "العجز المتعلَّم" (Learned Helplessness) بأنه حالة تصيب الأفراد أو الجماعات نتيجة تعرضهم المتكرر لصدمات أو أزمات دون أن يتمكنوا من مواجهتها أو تغيير نتائجها، مما يترتب عليه استسلام داخلي مزمن، وشعور عميق بانعدام الجدوى من أي محاولة للفعل أو التأثير.
عندما تنتقل هذه الحالة من الفرد إلى الجماعة، تصبح ظاهرة خطيرة تُقيد المجتمعات، وتعطل الطاقات، وتزرع روح الاستكانة والانهزامية. إنها حالة نفسية وسياسية يتربى عليها العقل الجمعي حين تُكرَّس فيها الهزائم وتُفرغ الإرادات ويُحاصَر الأمل.
ما يجري اليوم في غزة من حرب إبادة جماعية، وتطهير عرقي، وتجويع ممنهج، وتهجير قسري، يكشف عن فصول مأساوية من العنف الدموي غير المسبوق في تاريخ البشرية الحديث. ومع ذلك، فإن ما هو أشد قسوة من المشهد ذاته، هو شعور الكثير من العرب والمسلمين بالعجز التام أمام هذه الجرائم، وكأنهم تحولوا إلى شهود على الكارثة دون قدرة على ردع الجريمة أو حتى التخفيف من آثارها.
هذا العجز، في جوهره، ليس عجزًا حقيقيًا في الإمكانات، وإنما نتاج تراكمات نفسية وسياسية وثقافية، زرعت في الأذهان أن إرادتنا بلا قيمة، وأن صوتنا غير مسموع، وأن أفعالنا لن تُحدث فرقًا. وهنا يكمن "العجز المتعلَّم" الذي يُحبط الشعوب ويُرهب القرار ويُفرغ القضايا من محتواها التحرري.
وسط هذه الحالة العامة، برز الأردن أنموذجًا يُحتذى به في مواجهة العجز بالفعل لا بالشعارات، ضمن كافة القدرات والإمكانات المتاحة. فمنذ اللحظة الأولى للعدوان على غزة، كان الموقف الأردني بقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين صلبًا وواضحًا وشجاعًا ومؤثرا في كل المحافل الدولية، رافضًا جرائم الحرب التي ترتكبها دولة الإحتلال، ومدافعًا عن الحقوق الفلسطينية الثابتة، داعيًا إلى وقف العدوان ورفع الحصار وفتح الممرات الإنسانية.
لكنّ الأردن لم يكتفِ بالموقف السياسي، بل ترجم موقفه إلى فعل ميداني إنساني متواصل، حيث أنشأت القوات المسلحة الأردنية، الجيش العربي، مستشفيين ميدانيين داخل قطاع غزة، يعالجان الجرحى ويقدمان الرعاية الصحية رغم الظروف الأمنية بالغة الخطورة. وسيرت الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية عشرات القوافل الإنسانية والتموينية عبر معبر الكرامة، بمشاركة مؤسسات الدولة ومبادرات المجتمع المدني. كما نفذت عمليات إنزال جوي للمساعدات في قلب المناطق المحاصرة، وما تزال، في مبادرة نادرة وشجاعة أكدت التزام الأردن بأشقائه تحت القصف.
والأهم من ذلك كله، أن الشعب الأردني وقف موحدًا خلف قيادته الشجاعة وجيشه وأجهزته الأمنية، في انسجام تام بين الواجب القومي والمصلحة الوطنية، مقدمًا أنموذجًا متقدمًا في التوازن بين نصرة فلسطين والحفاظ على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي في الداخل، متصديا لكل محاولات التشوية والإساءة وزرع الفتنة وإحداث صدع في الوحدة الوطنية... محاولات ممنهجة ومكشوفة وموجهة من الخارج بإيعاز من أعداء فلسطين والأردن على حد سواء.
إن تحرر الأمة من هذا العجز المتعلَّم يبدأ من الوعي والإيمان بقدرتها على التأثير ومحاربة محاولات زرع الفتنة، ضمن الإمكانات المتاحة لكل دولة وشعب. ومن خلال مسارات شعبية ورسمية عملية عدة منها:
أولا: ترسيخ الثقة بجدوى الفعل الشعبي والمدني من خلال الحملات التوعوية والتبرعات والمشاركة في المسيرات السلمية المرخصة والمنظمة، والمقاطعة الاقتصادية الواعية والمسؤولة والموجهة للمجرم المحتل وداعميه من الخارج، ولكن بوعي ودون التأثير أو المساس بالمستثمر الوطني وابن الوطن الذي يسعى لتوفير قوت يومه وأسرته.
ثانيا: الإستمرار في دعم غزة عبر القنوات المعتمدة كالمؤسسات والصناديق الخيرية الرسمية والجمعيات الإنسانية الموثوقة، لتأمين الغذاء والدواء والخدمات للمدنيين المحاصَرين الذين يتضورون جوعا وعطشا ويفتكون مرضا وإعياء.
ثالثا: الاصطفاف حول القيادة الهاشمية الشجاعة والحكيمة. فلا تأثير ولا تغيير حقيقي ولا فعل خارجي مؤثر دون استقرار داخلي ووحدة وطنية والتفاف شعبي حولها قيادته الشجاعة وتلاحم معها، ومع جيشه المصطفوي وأجهزته الأمنية، والحفاظ على مؤسسات الدولة وهيبتها في الداخل والخارج.
رابعا: استثمار القوة الناعمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمؤثرين والمقالات واللقاءات في وسائل لإعلام والمحاضرات والندوات الثقافية وفي الجامعات والمراكز البحثية وأعمال الفن والدراما، وبلغات مختلفة، لإيصال الرسالة مدوية لكافة أرجاء المعمورة، لتعرية الاحتلال وتعزيز سردية الضحية وكسب تعاطف الرأي العام الدولي معها، مع الحق ومع الإنسانية. وهو تعاطف ورأي عام في غاية الأهمية والتأثير على متخذي القرار في دول العالم. وهو ما ثبت على أرض الواقع من خلال إعلان قيادات العديد من دول العالم مثل فرنسا وبريطانيا وكندا عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية رضوخا عند إرادة ورغبة شعوبها.
خامسا: التأثير السياسي عبر الحكومات ومجالس الشعوب (البرلمانات) والنقابات وكافة مراكز القرار، وذلك بالدفع باتجاه قرارات دولية سياسية وقانونية حاسمة وضغوط دبلوماسية وقانونية مستمرة ومتواصلة على المجرم المحتل المعتدي، ورفع دعاوى قضائية في المحاكم الدولية، سواء في محكمة العدل الدولية، ولنا فيها قاض الآن، والمحكمة الجنائية الدولية، لملاحقة مجرمي الحرب، نتانياهو وحكومته المتطرفة، ومتابعة تلك الجهود الدولية من قبل الحكومات الوطنية حتى تتحقق العدالة، حتى لو طال الزمن لذلك.
ختامًا... إن العجز ليس قدرًا أبديًا. بل هو حالة يمكن تجاوزها متى ما آمنا بأن التغيير لا يولد من الصمت، بل من الفعل المسؤول والخطاب المتزن والعمل المنظم. وما يُقدمه الأردن اليوم، بقيادته الحكيمة وجيشه العربي وشعبه الأصيل، هو أنموذج مشرق لأمة لا تقف متفرجة، بل تُبادر، وتُضمد الجراح، وتحمي نفسها وشعبها، وتُناصر شقيقها في الميدان، دون أن تهتز جبهتها الداخلية أو تتصدع أولوياتها الوطنية.
فلنتعلم من غزة هاشم الصمود والعنفوان والكبرياء، في مواجه الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتجويع... مهما بلغت التضحيات المجبولة بالدم والألم والعرق والدموع...
ولنتعلم من الأردن أن العجز يُهزم حين تتوحد الإرادة، وأن القيم تسمو حين يعظم الألم، مهما كانت الإساءة والتشكيك والتجريح... ويعلو صوت الإنسان فينا على كل صوتٍ ناشز ...
حفظ الله غزة هاشم وشعبها شعل الجبارين ونصرهم على أعدائهم واعداء الإنسانية جمعاء...
وحفظ الله الاردن عزيزا وقويا ومنيعا... وحماه شعبا وارضا وقيادة...