إنّ النسيان من خصائص النفس البشرية، وهو أمر لا ينفك الإنسان يعايشه ويخضع له، وليس بخلاف العادة والطبيعة، فهو ليس فراغًا من الذاكرة، ولا سقوطًا تامًا للخبرة، بل هو جانب من جوانب الحركة الدائمة في النفس، التي عليها تعتمد المعرفة والتجربة.
فالإنسان، حين يمر بالأحداث والتجارب، لا يحتفظ بها كما هي محفوظة في أولها، بل يعيد ترتيبها وفق ملامح الحالة، ولئن بدا للإنسان أنه فقد شيئًا من ماضيه، فإن الحقيقة هي أنه أبقى له أثرًا في بنيته النفسية وسلوكاته، وإن اختلفت صورته عن الشكل الأول.
ومن العجيب أن النسيان بهذا المعنى يُمكن أن يكون أداة للحياة، إذ إنه يُخلي النفس من تراكم ما يثقلها، ويتيح لها فسحة لإعادة البناء والتأمل، وما يتم نسيانه في الذهن الظاهر، يظل كامناً في باطن النفس، مؤثرًا في القرارات والأفعال.
ولا ينبغي للإنسان أن يطلب محو ماضيه، لأن الماضي هو الأساس الذي يقوم عليه الحاضر، وهو الذي يحدد معالم الذات ويُوجهها، ومن أراد أن يقطع ما بينه وبين ذكرياته، فقد قطع عن نفسه سببًا من أسباب فهم ذاته واستيعابها.
النسيان إذًا ليس فقدانًا حقيقيًا، بل هو إعادة صياغة مستمرة للخبرة والذاكرة، ينظم بها الإنسان حياته ويصوغ به نفسه، فكل ما مضى من تجارب، مهما غاب عن الوعي المباشر، فإنه لا يغيب عن النفس كلية، بل يكون كالجذر الذي تتكئ عليه أغصان الحاضر.
وهذا إدراك ضروري لكل من يطلب معرفة نفسه ويدرك حقيقة ذاته، فإن النفس ليست ثابتة ولا جامدة، بل في حركة دائمة بين الذاكرة والنسيان، بين الاحتفاظ والفقد، وبين الحضور والغياب، ومن فهم ذلك، عرف كيف يتعامل مع ماضيه، وكيف يعيش حاضره، وكيف يستشرف مستقبله.
الذاكرة قصة النفس مع الحياة بكل تفاصيلها، فهي سجل تجاربها ومخزن خواطرها، ومرآة تعكس حالات الوجدان بين سرور وحزن، بين ألم وفرح. ولكن هذه الذاكرة، ليست مطبوعة على لوحٍ صلد، بل هي من طبيعة النفس، فتختار منها ما هو صالح ونافذ، وتدع ما هو زائل وهامش، فتنسى جزءًا منها لما يرى العقل أن في حفظه عبءً لا فائدة منه، حشوً لا يسمن ولا يغني.
فكم من حدثٍ أُزيل من الذاكرة ليبقى جوهرًا نابضًا في النفس، فلا تثقلها بالأثقال التي لا معنى لها، بل تترك لها فسحة تشرق فيها روحها، وتنمو وتتزود من دروس الحياة.
فالنسيان إذن، ليس إلا تسيير شؤون النفس، يخفف عنها أثقال الأثر، ويهيئ لها صفاء الفكر، فتستطيع أن تستكمل مسيرتها نحو الحياة وهكذا، تبقى الذاكرة حكمةُ النفس في حفظ ما ينفعها، وجردها من ما لا جدوى فيه، لتكون قصة الحياة حقيقةً تتجدد مع كل نفس جديد.