* الأردن: من الإستشراف والتوقع.. للجاهزية والإستعداد
في حوارٍ متلفز بثّته قناة i24 العبرية مساء أمس 12 آب/أغسطس 2025، قال بنيامين نتانياهو، رئيس وزراء دولة الاحتلال، حرفيًا إنه يشعر بأنه في “مهمةٍ تاريخية وروحية”، ثم أجاب بأنه “مرتبط جدًا” برؤية “إسرائيل الكبرى” عندما عُرضت عليه رمزيةٌ لها أثناء المقابلة. هذا الربط العلني برؤيةٍ توسّعيةٍ تاريخيةٍ، تشمل الأردن كاملا وأجزاء واسعة من مصر والسعودية ولبنان وسوريا، إضافة لفلسطين المحتلة. هذا التصريح لم يأتِ من فراغ؛ ولا كهفوة إعلامية، بل كان تصريحا عميقا ومدروسا وموجها، التقطته صحفٌ ومواقع إسرائيلية ودولية باعتباره مؤشرًا إضافيًا على تصعيدٍ أيديولوجي يتجاوز شعارات "تحرير الأسرى" و"القضاء على حماس"، ويقارب مشروعًا جيوسياسيًا أوسع مدىً في المنطقة.
لم تكن هذه أولَ مرةٍ يطفو فيها “طيف إسرائيل الكبرى” إلى السطح السياسي. فوزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش ظهر في آذار/مارس 2023 وهو يلقي خطابًا أمام خريطةٍ تدمج الأردن في “خريطة إسرائيل”، مصحوبةٍ بتصريحات تنكر وجود الشعب الفلسطيني أصلًا؛ خطوةٌ أدانها الأردن ودولٌ عربية على أنها انتهاك صارخ وصلف لمعاهدة السلام الأردنية–الإسرائيلية. ثم تتابعت في الأعوام اللاحقة تصريحاتٌ لسموتريتش وإيتامار بن غفير وغيرهم من المسؤولين الإسرائيليين تعكس برنامجًا توسعيًا وعداءً صريحًا لمرتكزات التسوية والسلام مع الأردن، بما في ذلك اقتحامات بن غفير للحرم القدسي وما استتبع ذلك من موجة إداناتٍ أردنية وعربية ودولية.
على الضفة الأخرى، لم يتبدّل خطاب الأردن المبدئي. فجلالة الملك المعظم صدح وحذَّر مرارًا وتكرارا من جرائم الحرب والتطهير العرقي والإبادة الجماعية والعقاب الجماعي التي تقترفها قوات الإحتلال في غزة، ودعا إلى إنهاء الاحتلال والعودة إلى مسار دولتين حقيقي، ورفع خطابًا شديدا أمام البرلمان الأوروبي في حزيران/يونيو 2025 مؤكدًا أن الفلسطينيين "يستحقون الحرية والسيادة والدولة". كما اتخذت الحكومة الأردنية إجراءاتٍ دبلوماسيةً حاسمة احتجاجًا على كارثة غزة وما زالت. لم تك هذه الجهود مجرد شعارات؛ بل كانت جزءا من سياسةٍ عمليةٍ دؤوبة ومتواصلة ،تجسَّدت في قيادة الأردن للجهد الدبلوماسي العالمي المؤثر بالتوازي مع الدعم الإنساني للأشقاء في فلسطين من خلال عمليات إقامة المستشفيات الميدانية في غزة والضفة وقوافل المساعدات الإنسانية والإسقاطات الجوية المستمرة.
يتزامن الخطاب التوسعي المتطرف للمسؤولين في دولة الإحتلال مع وقائع دامية على الأرض. توسّع استيلاء الاحتلال على الأراضي في الضفة الغربية وتصاعد هجمات المستوطنين الإسرائيليين تحت حماية الجيش الإسرائيلي. تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) توثّق، بتواترٍ أسبوعيٍّ وشهري، الارتفاع الهائل في الاعتداءات والتهجير القسري في الضفة الغربية منذ عام 2023، بما في ذلك آلاف المشرَّدين بفعل عنف المستوطنين وإجراءات تقييد الحركة الصارمة داخل الضفة ومدنها وقراها. هذه الأرقام تُظهر أن العنف ليس "انفلاتًا" محدودا لمجموعة محددة من المستوطنين المتطرفين، بل نمطُ سياساتٍ ممنهج يُتم تنفيذه بشكل مخطط مسبق ومدعوم من دولة الاحتلال.
في القراءة الاستراتيجية الأوسع، لا يقتصر الحديث على دولة الاحتلال وحدها. فقياداتٌ أمنيةٌ ودبلوماسيةٌ غربية حذّرت صراحةً من خطر اتساع الحرب. مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية السابق وليام بيرنز قال إن هناك “خطرًا حقيقيًا جدًا” من تصعيدٍ إقليميٍّ أوسع إذا استمرت الديناميات الحالية، محذرًا من سوء التقدير على أكثر من جبهة. تكرّر هذا التحذير في مقابلاتٍ وتصريحاتٍ خريف 2024. الأمم المتحدة على لسان أمينها العام أنطونيو غوتيريش وصفت مرارًا الوضع بأنه على “حافة الهاوية”، ونددت بالتصعيد الذي يهدد بانفجار إقليمي. وزارة الخارجية الأميركية وحكوماتٌ غربيةٌ وعربيةٌ حذّرت من إشعال حربٍ أوسع، وعزز هذه الرؤية توقعات العديد من القادة العسكريين الأمريكيين المتقاعدين مثل الجنرال دوغلاس ماكغريغر والجنرال فرانك مكنزي والجنرال جاك كين والجنرال جوزيف أوتيل وغيرهم. كل هذا في مؤشرٍ إلى إدراكٍ وتوقع جماعيٍّ إقليمي وعالمي مستند للحقائق لسهولة الانزلاق إلى مواجهةٍ إقليمية، وربما تتحول إلى عالمية، شاملة.
هذه الشهادات وغيرها كثير تُسند فرضية أن حرب غزة، وإن حملت عنوان "القضاء على حماس" و"تحرير الأسرى"، تتحول عمليًا إلى منصة لإعادة هندسة البيئة والحدود الإقليمية وفق رؤىٍ أيديولوجيةٍ صهيونية متطرفة وقوةِ الأمرٍ الواقع المفروضة عسكريا، وفق منطق أن "تكون الحدود عند وقوف آخر دبابة". ومع إعلان نتانياهو مؤخرًا خططًا للسيطرة المباشرة على غزة، على نحوٍ يوسّع أمد الحرب، تفتح احتمالات ومخاوف الاحتكاك الإقليمي والانزلاق لحرب إقليمية شاملة مع دولة الاحتلال تشمل الأردن ومصر مدعومة بأشقائها على أقل تقدير.
على المستوى الدولي، اعترفت إسبانيا وإيرلندا والنرويج بدولة فلسطين في 28 أيار/مايو 2024، ثم لحقتها سلوفينيا في حزيران/يونيو 2024، وفرنسا في تموز/ يوليو 2025. كما أعلنت حكوماتٌ غربية، وتعد تاريخيا حليفة لدولة الاحتلال، كألمانيا وكندا وبريطانيا وأستراليا ونيوزلندا عزمها المضي نحو الاعتراف بدولة فلسطين، إضافة لقرارات تلك الدول بحظر تصدير الأسلحة إلى دولة الاحتلال. هذا النهج الدولي الذي اكتسب زخما دوليا رسميا، على اختلاف التوقيتات والصياغات، وشعبيا عميقا الآن، يعمّق من عزلة دولة الاحتلال وحكومتها المنطرفة، ويؤشر لتحوّلٍ في المزاج الغربي من "إدارة الأزمة" إلى محاولة فرض "كلفةٍ سياسيةٍ" على استمرارها.
حين يتلاقى خطابٌ توسعيٌّ أيديولوجي لدى قادةٍ إسرائيليين نافذين، مع واقعِ استيطانٍ وعنفٍ مُمنهج في الضفة، وبيئةٍ إقليميةٍ على حافة الاشتعال وفق تقديرات الأمم المتحدة والاستخبارات الأميركية وقادةٍ عسكريين، فإن الاستنتاج الطبيعي هو أن المنطقة تقف على أعتاب حربٍ أوسع؛ حربٍ قد تتجاوز غزة إلى اشتباكٍ متعدد الجبهات يشمل الجنوب السوري، بمبرر الدفاع عن الدروز، وحقيقة للسيطرة على "ممر داوود" الناقل للحدود الشرقية ل"إسرائيل الكبرى"، والممكن لوضع الأردن جنوبا بين فكي كماشة، وبالتالي احتمالاتِ المواجهة والإحتكاك المباشر مع الأردن ومصر، وذلك إذا ما فُرضت محاولات وقائعُ ترسيمٍ قسريٍّ لحدود سيطرة ونفوذ جديدة.
يتطلّب مواجهة هذا التهديد المصيري للوجود اليوم موقفا أردنيأ غاية في الصلابة والحكمة. مقاربة "دولة - مجتمع" متكاملة، تُزاوج بين صلابة الردع وحكمة الدبلوماسية، وبين جاهزية الداخل واستدامة الإسناد والدعم العربي والدولي. على المستوى الرسمي، تبدأ الأولويات بإعادة تموضعٍ استراتيجي هادئ يرفع الجاهزية الدفاعية بشكل كبير وسريع، ولكن دون ضجيج. تنويع مصادر التسليح، وعلى الأخص منظومات الدفاع الجوي، ودعم القدرات الوطنية الدفاعية وصناعة الأسلحة والذخائر، وعلى الأخص الطائرات المسيرة بكافة أنواعها وأحجامها وراجمات الصواريخ، وتفعيل منظومة الجيش الشعبي المنضبطة والمدروسة، وإعادة توزيع القدرات على الحدود الحسّاسة، وتعزيز منظومات الإنذار المبكر والسيطرة والاتصالات والاستخبارات، وتثبيت قواعد الاشتباك الدفاعية بما يحول دون الانزلاق غير المحسوب ويضمن في الوقت نفسه حق الردّ الرادع عند الضرورة. يتزامن ذلك مع ربطٍ عضويّ بين المؤسستين العسكرية والأمنية وغرف تخطيطٍ مشتركة مع الشركاء العرب، خاصةً مصر والسعودية والإمارات وسوريا وتركيا، بهدف تنسيق التقييمات الاستخبارية ومواءمة إجراءات الحماية الجوية والبرية وتأمين خطوط الإمداد، مع إبقاء قنوات اتصال عملياتية مفتوحة مع الحلفاء الدوليين لتفادي "سوء التقدير" في مسارح متعددة.
دبلوماسيًا، يحتاج الأردن إلى تشغيل "دبلوماسية الطوارئ" بكامل طاقتها. رسائل حازمة ومنسَّقة لعواصم القرار بأن أي خرق لحرمة الأردن أو محاولة فرض وقائع على حساب أمنه القومي سيقابل بإجراءات عملية شديدة وفورية، بالتوازي مع حملة قانونية دبلوماسية نشطة في مجلس الأمن والجمعية العامة والمحاكم الدولية، العدل والجنائية الدوليتين، تربط بين استمرار العنف في الضفة وغزة وبين تهديد الأمن الإقليمي. وتحت هذا الغطاء، تُدفع عجلة الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية خطوةً إضافية عبر حشد كتلة حرجة من الدول الأوروبية والأميركية اللاتينية والأفريقية لخلق كلفةٍ سياسيةٍ متراكمة على استمرار الاحتلال وسياسات التوسّع.
اقتصاديًا ومالياً، تقتضي الجاهزية إنشاء "مظلّة صمود" تُحصّن المجتمع من ارتدادات أي تصعيد. مضاعفة مخزونات السلع الإستراتيجية (قمح، أدوية، مشتقات نفطية) وتفعيل خطوط تمويلٍ احتياطية مع الصناديق العربية لضمان سيولة النقد الأجنبي، وإقرار موازنات طوارئ مرنة تُطلق تلقائيًا عند بلوغ مؤشرات إنذار محددة. كما ينبغي تأمين منظومات الطاقة، غازًا وكهرباءً، بخطط بديلة، وتسريع مشاريع الربط الإقليمي، وتحفيز الصناعة الدوائية والغذائية الوطنية عبر إعفاءاتٍ فورية وشبكات مشترياتٍ حكومية موجّهة.
مدنيًا ولوجستيًا، لا بدّ من تحويل الدفاع المدني إلى ثقافة مجتمع. خطط إخلاء وتجمّعٍ مُعلَنة للأحياء، ومسارات إسعافٍ مُجرَّبة، وتمارين محاكاةٍ دورية في المدارس والجامعات والمستشفيات، مع منظومة اتصالاتٍ عامة تتحاشى البلبلة وتكافح الشائعات عبر منصة رسمية موحّدة تُحدَّث بالساعة. يُضاف إلى ذلك رفع جاهزية القطاع الصحي. مستشفياتٌ ميدانية متنقلة، ومخزون دمّ وأدويةٍ حرجة، واتفاقيات تشغيلٍ مشتركة مع القطاع الخاص، وتفعيل "استمرارية الأعمال" في المرافق الحيوية (مياه، كهرباء، اتصالات، بنوك ومحلات صرافة) بخطط بديلة موثّقة ومجرَّبة.
في الفضاء السيبراني والمعلوماتي، تُعتبر حماية الشبكات الحيوية وإحباط الهجمات السيبرانية وحملات التضليل والتشويه جزءًا من أمن الدولة. المطلوب رفع الجاهزية القصوى والاستعداد الكامل من قبل "المركز الوطني للأمنُ السيبراني"، وكافة مؤسسات الدولة، على مدار الساعة استعدادا للمواجهة والتي ستبدأ على الأغلب، أو بدأت بالفعل، سيبرانيا وإعلاميا. والقيام بمزيد من الجهود المكثفة والمستمرة للتنسيق مع النظراء العرب والدوليين في مجال الأمن السيبراني والمعلوماتي، وحملة اتصال وتواصلٍ إعلامية إستراتيجية تشرح للرأي العام، محليًا وخارجيًا، أسس الموقف الأردني: دفاعٌ وطني مشروع وإسناد مستمر للأشقاء والتمسّكٌ بحلٍّ سياسي عادل. أمن سيبراني صلب وإعلامٌ متماسك ورسائل دبلوماسية دقيقة تمنع الخصم من الاستثمار في التشويش وبثّ الوهن.
قانونيًا وسياديًا، يلزم تدعيم الموقف بأدواتٍ مُسبقة. تفويضات تشريعية من قبل مجلس الأمة، مرنة لإعلان حالات الطوارئ وفق ضوابط تضمن الحقوق، ومراسيم إنفاذٍ فوري لحماية البنية التحتية وبروتوكولات واضحة للتعامل مع أي موجات نزوح محتملة على الحدود، بما يمنع حدوثها بداية، ويحفظ الكرامة الإنسانية ويصون الأمن الوطني إن حدثت لا قدر الله وبشكل محدود. كما أن تفعيل "آليات التشاور الدفاعي العربي”، ولو خارج أطرٍ تحالفيةٍ رسمية، يوفّر مظلة ردعٍ سياسية تُقلّص هامش المغامرة لدى الطرف الآخر.
أما على المستوى الشعبي، فالمعادلة بسيطة وعميق. وحدة وطنية صلبة وانضباطٌ مجتمعي و إسنادٌ إنساني نشط. تنطلق الوحدة من رفض الاستقطاب والتشنج الداخلي وتحييد الخلافات السياسية لصالح "أولويات الأمن القومي"، مع إشراك النقابات والجامعات ومنظمات المجتمع المدني في حملات تدريبٍ على الاستجابة للطوارئ، والتطوّع في فرق الإغاثة، ودعم المستشفيات الميدانية والقوافل الإنسانية إلى غزة والضفة. الانضباط يعني احترام توجيهات السلطات، وعدم تضخيم الشائعات، الموجهة من أعداء فلسطين والأردن على حد سواء، حتى ولو كانت بأدوات داخلية، بل ووأدها في مهدها، وترشيد الاستهلاك بما يمنع الضغط على سلاسل التوريد. أمّا الإسناد الإنساني، فهو مصدر قوةٍ أردني تاريخي يجب أن يستمر ويتسع. رفع زخم التبرعات من خلال الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية، بالشراكة مع المنظمات الدولية المختصة، وإبقاء الجسر الإنساني الأردني للأشقاء في فلسطين مفتوحًا على مصارعيه، رغم التحديات والمعوقات وحملات التشويه والإساءة.
خلاصة ذلك كله، أن الحرب قادمة لا محالة مع دولة الإحتلال والتوسع الأيديولوجي المتطرفة، وفق تقدير الكثيرين، وأن استعداد الأردن، حكومة وشعبا، للحرب ليس إعلانًا عن نوايا هجومية، بل تحويل الأردن إلى معادلة ردعٍ منضبط. جيشٌ وأجهزة أمنية يقظة، ودبلوماسيةٌ واثقة، واقتصادٌ مُحصَّن، ومجتمعٌ متماسك، ورسالةٌ إنسانيةٌ لا تنقطع. بهذه الخمس ركائز، تُحاصر المغامرة وتُكبَّل كلفتها، ويظلّ الوطن وقراره حرًّا وسياديًا لقيادته الهاشمية الشجاعة والحكيمة، ومن حولها شعب مخلص وفي وشجاع يلتف حولها، مستعد لفداء وطنه بروحه ودمه رخيصة في سبيله...
حفظ الله الأردن عزيزا وقويا ومنيعا... وحماه شعبا وأرضا وقيادة..