تُوقِفُ المجتمعاتُ نزفَها حين تُحسِنُ تسميةَ الأشياء بأسمائها، فتُغلِقُ المنطقة الرمادية التي تتغذّى على التردّد وتُعيد إنتاج الشكّ بوصفه سياسةً عامة. فاللغةُ المتردّدة تُضاعِفُ خسائرنا: تساوي بين المعتدي والمعتدى عليه، وتخلطُ بين الحقّ والرأي، وتُحوِّلُ الخلاف المشروع إلى ضوضاءٍ تُعطّل القرار. وندعو في هذه المقالة إلى مغادرة «البين بين»؛ لأنّ بقاءنا فيه يُصادِرُ التعددية لصالح الغموض، ولا يخدمُ المصلحة العامة بل يُربك بوصلتها، ولا يثبّت الموقف الوطني ويبدّده في سوق التأويلات.
تَفرِزُ التجاربُ الحديثة درسًا بسيطًا؛ الرمادية تُفسِدُ الحكمةَ عندما تُساوي بين الحقيقة والزيف تحت شعار الرأي والرأي الآخر، فتضع الأكاذيب على طاولةٍ واحدة مع الوقائع. تُطَمئنُ الناسَ شكليًّا، ولكنّها تُرخي سيادةَ الحقيقة، وتفتحُ الباب أمام صناعةِ الالتباس كمهنةٍ مربحة. تُطلَبُ المرونةُ في الأساليب، نعم، غير أنّ المرونة بلا بوصلةٍ قِيَميّة تُحوِّلُ الحوار إلى لعبةِ مرايا لا ترى فيها وجهاً ثابتًا للوطن ولا مصلحةً أعلى من مصالح المتحاورين.
تُميِّزُ الدعوةُ إلى الحسم بين اليقين والجمود؛ فاليقين هنا أخلاقيٌّ ووطنيّ لا معرفيٌّ مغلق. يُحدَّدُ بالثوابت التي لا تتبدّل بتبدّل الحكومات: سيادة الدولة، وأمن المجتمع، وكرامة الإنسان، والالتزام بالقانون العام. تُفتَحُ مساحاتُ الاجتهاد واسعًا داخل هذه الإطار، وتُحترمُ الآراءُ المتخالفة، لكنّ «الرمادي» الذي يَمسُّ هذه الثوابت أو يساومُ عليها لا يُعَدُّ رأيًا؛ إنّه خلطٌ يُعَطِّلُ المصلحة العامة ويُقيِّدُ القرار تحت ضغط الابتزاز اللفظيّ.
تُصلِحُ الصحافةُ خطابها عندما تُعلِنُ فرضيّاتها وتُسمّي مصادرها وتَكُفُّ عن التوازن الكاذب. تُخطئُ المقالاتُ حين تُراوغ بالعبارات الهُلاميّة، وتُصيبُ حين تَعرِضُ الوقائع وتَستخلص النتائج بوضوح. تُحاسِبُ المنصّاتُ نفسها على معيارٍ بسيط: هل تُقرِّبُ الجمهور من الحقيقة أم تُغرِقُه في «بين بين»؟ تُضيّعُ البرامج الحوارية رسالتها حين تُساوي بين خبرٍ مُوثَّق وتغريدةٍ مجهولة، وحين تُزيّنُ التقلّبَ بوصفه «وسطية»، بينما الوسطُ الحقيقيّ هو مركزُ الثوابت لا نقطةُ هروبٍ من الموقف.
تُرشِدُ السياسةُ العامة نفسها بمبادئ عملية: تُقدِّمُ الوضوح قبل المصالحة، فتُعرَضُ خطوطُ الدولة الحمراء بلا مواربة؛ تُجيبُ سؤال المصلحة العامة في كلّ قرار: من المستفيد ومن المتضرّر وبأيّ كلفة؟ تُجري اختبار الحقائق قبل اختبار السرد، فلا تُبنى السياسات على شائعاتٍ مصقولة بل على بياناتٍ قابلة للتحقّق؛ وتُلزِمُ الفاعلين بمسؤولية الكلمة، فالتصريحُ التخمينيّ ليس بطولة، والإنكارُ المتأخِّر لا يُصلِحُ أثره في وعي الناس وثقتهم.
تُميِّزُ الدولةُ الرشيدة بين الحوار بوصفه أداةَ حكمٍ رشيد وبين الحوار بوصفه ستارًا لتعليق القرار. تُشغِّلُ الأولى المشاركةَ والرقابة والمساءلة وتَحسمُ في النهاية وفق القانون والمصلحة العليا. تُعطِّلُ الثانية الزمنَ وتُرحِّلُ الاستحقاقات تحت مسمّى «التوافق»، فتُحفّزُ اقتصادَ الشكّ وتُقنّنُ التدافع داخل الرماديّ. تُؤسِّسُ التجربة الأردنيةُ قيمتها حين تُزاوجُ بين انفتاحِ النقاش وتثبيتِ الثوابت، فتَستَمعُ لكلّ صوتٍ مسؤول، ثم تُقرِّرُ وتلتزم وتُحاسِب، لا تُهادِنُ في السيادة والأمن والكرامة، ولا تُغريها ألعابُ اللا موقف.
تُظهِرُ الأزماتُ الكبرى أنّ «الرمادية» رفاهيةُ زمنِ السكون لا خطّةُ عبورٍ عند العاصفة. تُشتِّتُ التردّداتُ جهدَ المؤسّسات، وتُضعِفُ ثقةَ الجمهور، وتُعطي خصومَ الدولة فرصةً لملءِ الفراغ. تُقابِلُها لغةٌ حاسمةٌ تُصارحُ الناسَ بالوقائع والخيارات والكُلف، وتَطلبُ منهم المشاركة في حمل أعباء القرار. تُستعادُ الثقةُ حين يرى المواطن معيارًا واحدًا يُطبَّقُ على الجميع، وحين يَشعُرُ أنّ وضوحَ الدولة يحمي حريّته ولا يساومُ على كرامته.
تُختَتمُ الدعوةُ بقاعدةٍ موجزة: تُضاعِفُ المنطقة الرمادية تكاليفَنا وتُقسِّمُ وعينا؛ ويُقلِّصُ الوضوحُ كلفةَ الحكم ويَجمعُ الإرادةَ العامة. يُكرِّسُ الموقفُ الوطنيُّ ثباتَه عندما يرفضُ البين بين فيما يمسُّ السيادة والكرامة والمصلحة العليا، ويَحتضِنُ التعدديّةَ المسؤولة في كلّ ما دون ذلك. يُحسِنُ الوطنُ الإصغاء، ثم يُحسِنُ الحسم؛ ويُحسِنُ الحوار، ثم يُحسِنُ القرار. هكذا يُغادرُ الغموضُ مقاعدَ التوجيه إلى هوامشِ الكلام، وهكذا نحفظُ بوصلةَ المصلحة العامة ونُبقي ثباتَ الموقف الوطنيّ معيارًا لا يُساوَمُ عليه.