"البدور" يقود ثورة صامتة في القطاع الصحي الأردني
فيصل تايه
01-09-2025 10:43 AM
منذ أن تسلّم الدكتور إبراهيم البدور حقيبة وزارة الصحة، لم يكن دخوله إلى المشهد مجرد انتقال إداري تقليدي، بل أشبه بانطلاقة مختلفة تحمل بصمة إصلاحية واضحة، تمزج بين الانضباط الإداري والابتكار التكنولوجي، في محاولة جادة لإعادة صياغة العلاقة بين المواطن والمؤسسة الصحية ، فاختار أن يبدأ من حيث ينتظر المواطن : من جودة الخدمة، لا من توسعة المباني فقط ، لذلك لم يكتفِ بطرح خطط تقليدية للتوسع، بل بادر إلى إطلاق منظومة رقابية متقدمة تقوم على تقارير تقييم ربع سنوية من جميع المستشفيات ومديريات الصحة، باستخدام أدوات إلكترونية حديثة لقياس مستوى رضا المرضى .
وفي خطوة غير مسبوقة، أعلن عن تأسيس جائزة المستشفى الحكومي المتميز التي تُمنح سنويًا للمؤسسات الصحية الأكثر التزامًا بمعايير الجودة وسلامة المرضى، وجودة الخدمة، والكفاءة التشغيلية، والتحول الرقمي. هذه المبادرة، بحسب مراقبين، تنقل القطاع الصحي من ثقافة الروتين والبيروقراطية إلى ثقافة التنافس الإيجابي، وتضع المريض في قلب الأولويات.
لقد طرح البدور وفي أول اجتماع له مع كوادر الوزارة، ما وصف بـ خارطة الطريق ثلاثية الإصلاح، ملخصة في ثلاث كلمات مفصلية : الانضباط، الكفاءة، والمساءلة ، وقد أكد أن الهدف لا يقتصر على رفع مستوى الخدمة الطبية من الناحية التقنية، بل يشمل أيضًا تحسين تجربة المريض كاملة، بدءًا من لحظة دخوله المستشفى وحتى خروجه، بحيث تكون أكثر إنسانية وسلاسة بعيدًا عن التعقيد أو التأخير. وأعلن بشكل صريح أن الوزارة لن تقبل بعد اليوم بأي تقصير أو تساهل في تقديم الخدمة، معتبرًا أن المريض هو البوصلة، ورضاه هو المعيار الحقيقي للأداء. هذا التوجه حوّل العمل من إنجازات فردية متفرقة إلى منظومة مؤسسية مستدامة، تربط الأداء بالقياس والمساءلة، وتؤسس لقطاع صحي محكوم بالشفافية ومعايير أداء قابلة للتقييم، يكافئ المتميز ويحاسب المقصر.
أما المحور الأكثر طموحًا في رؤية الوزير، فيتمثل في مركز الصحة الرقمية في السلط، الذي يسعى لأن يجعل من الأردن نموذجًا إقليميًا رائدًا في مجال الطب الرقمي ، اذ ان التحول الرقمي بالنسبة للبدور ليس مجرد تحديث تقني، بل هو جوهر الإصلاحات الجديدة. هذا المركز سيعمل على توحيد الملفات الطبية إلكترونيًا، وتفعيل خدمات التطبيب عن بُعد، والاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي في التشخيص المبكر للأمراض، بالإضافة إلى تحليل البيانات الصحية الضخمة لتصميم سياسات صحية استباقية أكثر فاعلية ، وبهذه الخطوة، تتحول البنية التحتية الرقمية إلى أداة استراتيجية تسهم في تقليص وقت الانتظار، وتخفيف الأعباء المالية، ورفع الكفاءة التشغيلية إلى مستويات غير مسبوقة.
ولم يقتصر الأمر على التخطيط، بل ترجم الوزير رؤيته إلى خطوات عملية ملموسة، ففي الأمس القريب، حققت الوزارة بقيادته قفزة تاريخية في خدمات الأشعة؛ إذ تم رفع الطاقة التشغيلية لأقسام التصوير من 5,700 صورة شهريًا إلى 13,000 صورة، بزيادة 7,000 صورة إضافية ، وقد تحقق ذلك عبر استحداث دوام مسائي وتمديد العمل إلى أيام السبت، ما يعكس إرادة حقيقية في مواجهة واحدة من أكثر التحديات إلحاحًا، وهي مشكلة الانتظار الطويل ، رغم الحاجة الى المزيد من الاجهزة لتخفيف "الحمل" ، لكن اعتقد ان الوزير يمتلك رؤيته العملية ، ذلك بالبحث عن مصادر أخرى لتزويد المستشفيات بمزيد من تلك الاجهزة وادامة عمل الموجود منها والمحافظة على قدرتها التشغيلية حسب تعليمات الشركات الصانعة واستمرار صيانتها الدورية خوفا من تعطلها ، في خطوة جسدت التزامًا غير مسبوق بتجويد هذه الخدمة وتحسين تجربة المريض وتقليل معاناته، وأثبتت أن الإدارة الفاعلة قادرة على تحويل الوعود إلى إنجازات واقعية.
من خلال هذه المؤشرات، يمكن قراءة ملامح مستقبل صحي أردني مختلف تمامًا ، مستقبل يقوم على ترسيخ الثقافة الرقمية كجزء أساسي من الخدمة الصحية، وتعزيز المنافسة بين المستشفيات الحكومية عبر الجوائز والحوافز، وإصلاح آليات شراء الخدمات الطبية بما يخدم المصلحة العامة ويضمن الكفاءة المالية، إلى جانب الاستثمار في المورد البشري من خلال التدريب والابتعاث والتوزيع العادل للكفاءات الطبية ، فكانت خطوات محسوبة بدقة تفتح نافذة أمل واسعة أمام القطاع الصحي الأردني، وتجعلنا أمام تحول جذري عنوانه: مريض راضٍ، وقطاع صحي منافس، وأردن أكثر صحة.
من الواضح أن ما يشهده القطاع الصحي الأردني اليوم بقيادة الدكتور إبراهيم البدور لا يمكن النظر إليه بمعزل عن السياق الإقليمي والعالمي ، ففي وقت تتسابق فيه الدول على توظيف التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية، يضع الأردن قدمه بثبات في هذا السباق عبر مبادرات عملية، تجعل تجربته جديرة بالمتابعة والنقل إلى محيطه العربي ، فبينما تواجه أنظمة صحية عديدة في المنطقة تحديات التمويل والبيروقراطية وضعف الكفاءة التشغيلية، يأتي النموذج الأردني الجديد ليؤكد أن الإرادة السياسية والإدارية قادرة على تحويل التحديات إلى فرص، وأن الإصلاح الحقيقي يبدأ من المريض كمحور الخدمة، لا من المباني ولا من الشعارات.
بقي ان اقول ان ثورة "البدور" الصامتة لا تقتصر على كونها إصلاحًا محليًا داخليًا، بل هي أيضًا رسالة إقليمية بأن الأردن قادر على أن يكون مركزًا إقليميًا للطب الرقمي والخدمات الصحية المتقدمة، بما يملكه من خبرات طبية بشرية عالية وكفاءة إدارية متنامية ، وإذا استمرت هذه الإصلاحات بخطواتها المتدرجة، فإن الأردن لن يحسن صحة مواطنيه فحسب، بل قد يتحول إلى وجهة صحية رائدة في المنطقة، تنافس المراكز الطبية العالمية في الجودة والكفاءة، وتفتح آفاقًا جديدة للاقتصاد الوطني من خلال تعزيز السياحة العلاجية والخدمات الطبية المساندة.
والله ولي التوفيق.