الصين ترسم ملامح نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب
السفير الدكتور موفق العجلوني
02-09-2025 06:47 PM
في مشهد سياسي واقتصادي يعكس تغير موازين القوى العالمية، ألقى الرئيس الصيني شي جين بينغ كلمة مفصلية خلال الاجتماع ال 25 لقادة منظمة شانغهاي للتعاون، والذي انعقد في مدينة تيانجين الصينية، يوم أمس. لم يكن الخطاب تقليديًا أو بروتوكوليًا، بل حمل في طياته رؤية استراتيجية عميقة تعكس الطموح الصيني في إعادة تشكيل هيكل الحوكمة العالمية، على أسس من العدالة، والمساواة، والتعددية الحقيقية.
جاء الخطاب في توقيت رمزي بالغ الدلالة، حيث يصادف هذا العام الذكرى الـ 80 لانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وتأسيس الأمم المتحدة، وهو ما استثمره الرئيس شي جين بينغ ليؤكد على أن النظام العالمي الذي نشأ في أعقاب الحرب، بات بحاجة إلى إصلاح جوهري يتواءم مع تحولات القرن الحادي والعشرين.
لم يكتف الرئيس الصيني بتشخيص الواقع الدولي، بل قدم مبادرة متكاملة للحوكمة العالمية ترتكز على خمس دعائم: المساواة في السيادة، و سيادة القانون الدولي ، و تعددية الأطراف، ووضع الشعوب في قلب الحوكمة، والتركيز على النتائج العملية. وهي دعائم تمثل ردًا صريحًا على ما تعتبره بكين "اختلالًا" في النظام العالمي الحالي، نتيجة هيمنة الأحادية الغربية وتراجع دور المؤسسات الدولية.
طوال السنوات الـ 24 الماضية، كانت منظمة شانغهاي للتعاون أداة صينية–روسية لتكريس توازن إقليمي في آسيا الوسطى، لكن خطاب الرئيس شي هذا العام أخرج المنظمة من بعدها الجغرافي المحدود، ليجعل منها أداة طموحة لتشكيل نظام عالمي بديل. ومع انضمام عدد متزايد من الدول من آسيا، والشرق الأوسط، وأوروبا الشرقية، تتحول المنظمة تدريجيًا إلى تكتل دولي يناهض مركزية الغرب في صناعة القرار العالمي.
وقد بدا لافتًا في خطاب الرئيس شي التركيز على ما أسماه "روح شانغهاي" القائمة على الثقة المتبادلة، واحترام التنوع، والسعي المشترك للتنمية، وهي قيم تسعى بكين إلى تعميمها كمرتكزات لحوكمة عالمية أكثر توازنًا.
ما يميز الطرح الصيني في هذا الخطاب، ليس فقط نقد النظام الدولي الحالي، بل تقديم بدائل عملية ومبادرات قابلة للتنفيذ. من تقديم مليارات الدولارات كمساعدات وقروض، إلى إطلاق مشاريع صغيرة "جميلة وفعالة" لتحسين معيشة الشعوب، مرورًا ببرامج التدريب والتعليم، كلها تؤشر إلى أن الصين تراهن على النفوذ الناعم والشراكات التنموية لفرض مكانتها العالمية.
في المقابل، تظهر بكين كأنها تتحرك وفق منطق استراتيجي طويل النفس، فهي لا تبحث عن المواجهة المباشرة مع الغرب، بل تعمل على إعادة تشكيل بنية النظام الدولي من الداخل، عبر أدوات التعاون، والتنمية، وتعدد الشركاء، في وقت يبدو فيه أن الولايات المتحدة وأوروبا أكثر انشغالًا بإدارة أزماتهما الداخلية من صناعة المستقبل.
الخطاب ومبادرة الحوكمة لا يمثلان مجرد رؤية صينية، بل يرسلان رسالة أوضح . النظام الدولي القديم لم يعد قادرًا على الاستمرار بشكله الراهن، والعالم بات بحاجة إلى مقاربات متعددة، وأصوات جديدة، وأقطاب فاعلة تشارك في صياغة القرار الدولي.
إن ما طرحه الرئيس شي جين بينغ ليس فقط إعلان نوايا، بل هو خطوة مدروسة في مشروع متكامل تقوده بكين منذ أكثر من عقد، عنوانه "إعادة التوازن للعالم"، ليس من خلال صدام الحضارات، بل عبر احترام التعددية، وتكافؤ الفرص، وتوزيع الثروة والسلطة بشكل أكثر عدالة.
أثبتت كلمة الرئيس الصيني أن بكين لم تعد "قوة صاعدة" فحسب، بل قوة قائدة تمتلك الرؤية، والإرادة، والموارد، لبناء نظام عالمي جديد، أو على الأقل لتحقيق تحول جذري في النظام القائم. وفي عالم تتسارع فيه الأزمات والتحديات، يبدو أن الفراغ الذي يتركه الغرب تسده الصين بخطى واثقة، ليس فقط من باب المصالح، بل من باب رؤية فلسفية عميقة لمسؤولية القيادة العالمية.
فهل آن الأوان للعالم أن ينظر إلى الشرق من زاوية مختلفة؟