تدفن النعامة رأسها في الرمال كي لا ترى الخطر، وكأنها بذاك الطقس الرمزي تعلن هزيمتها أمام ما لا يُحتمل من عاصفة. وفي مشهد العالم اليوم تتكرر الحكاية ولكن على هيئة أكثر دراماتيكية: أمم بأكملها تغرس رؤوسها في وهم الاستقرار بينما النار تمتد في هشيم القارات، والريح العاتية تعصف بكل ما يظنّه الناس صلباً من قواعد وقوانين. الأزمات متشابكة، من الحروب المشتعلة على تخوم الجغرافيا إلى الانهيارات الاقتصادية، ومن موجات اللجوء المتلاحقة إلى كوكب يئن تحت وطأة التغير المناخي. ومع ذلك يظل الكثير غارقاً في لعبة الإنكار، يحتمي بخطاب القوة أو بأوهام النمو، فيما الحقيقة تمزّق الأفق مثل برقٍ في ليلٍ بلا نجوم.
وفي التاريخ قيل "نُصرتُ بالرعب"، وكان ذلك إعلاناً لانتصار يستند إلى هيبة تسبق السيوف، غير أنّ حاضرنا يكشف وجهاً آخر للمفارقة: هُزمت الأمة بالرعب. لم يعد الرعب سلاحاً عسكرياً يُلقي الهزيمة في قلب العدو، ولكنه تحول إلى حالة وجودية شلّت الإرادة وضيّقت الأفق وأضعفت الحلم. ما كان للرعب أن ينتصر لو لم يجد أرضاً رخوة في الداخل، ولو لم يزرع الخوف في النفوس قبل أن تفرضه الجيوش. صار الخوف أكبر من السلاح، وأخطر من القصف، وأثقل على النفس من أي حصار، لأنه يزرع القابلية للانكسار حتى قبل وقوع المواجهة.
وهذا يقود إلى ما هو أعمق: قابلية الأمة للاستعمار، حالة نفسية واجتماعية وفكرية تمهّد الطريق لكل غازٍ. إنها لحظة فقدان المشروع الحضاري، وغياب الثقة بالذات، وتغوّل الاستبداد الذي يصادر أحلام الناس ويشلّ طاقاتهم. حين تتحول الأمة إلى جسدٍ بلا روح وكثرةٍ بلا فكرة، يصبح الخارج قادراً على إخضاعها بأبسط الوسائل. وإن رحل المستعمر ظاهرياً، بقي أثره كامناً في البنى الاقتصادية والفكرية والثقافية، يعيد إنتاج التبعية بأشكال جديدة، كأنّ الأمة تخلّصت من الاحتلال العسكري لكنها بقيت أسيرة للاستعمار الرمزي والمعرفي.
غير أن هذه الصورة لا تنفصل عن مقولة أخرى طالما أثارت الجدل: ولع المغلوب بالغالب. فالمقولة صادقة من حيث الظاهر، إذ لم تخلُ أمة مهزومة من لحظة افتتان بغالبها في ملبسه ولسانه ونظمه وأفكاره. لكنها كاذبة حين تُعمم وتُطلق، لأن التاريخ شهد لحظات عصيان صاغت فيها الشعوب المغلوبة مقاومتها من نفورٍ بالغالب لا من ولعٍ به، ولحظات استعارةٍ لأدواته لا حبّاً فيها وإنما استخداماً لها ضده. الافتتان أحياناً قناع استراتيجي، والولع تمرير لمشروع مضاد. في هذا التناقض تنكشف طبيعة الأمم: قادرة على أن تُفتن حيناً وأن ترفض حيناً آخر، وأن تحوّل حتى أدوات الغالب إلى سلاحٍ لمقاومته.
ورغم كل ذلك، يظل الواقع غارقاً في حالة الانتظار: انتظار ما سيقرره الآخر المتغطرس وكأنّ التاريخ معلق على مقعده. تُعطل الإرادة الجماعية، وتتجمد القرارات، ويصبح مصير أمة أو شعب مرهوناً بخطابٍ يصدر من وراء البحار. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ماذا ننتظر؟ هل ننتظر عدالةً ممن لا يرى فينا إلا أوراق مساومة؟ أم رحمةً من آلة سياسية لا تعرف سوى لغة المصالح؟ إنّ الانتظار صورة أخرى من صور الهزيمة، لأنه يجمّد الزمن حتى تُفرغ القوة المتغطرسة من كبريائها، بينما الريح تمضي والنار تأكل الأخضر واليابس. ما ننتظره في الحقيقة لن يأتي أبداً، لأن الآخر لا يمنح ما لا يُنتزع. الانتظار الذي يليق بالأمم هو انتظار يقظتها الداخلية، انتظار قرارها هي، لا قرار يُملى عليها من الخارج.