الدور المنتظر لمستشارية شؤون العشائر: ليس بروتوكوليًا
د. حسين سالم السرحان
07-09-2025 08:53 AM
في لحظة وطنية فارقة، ومع انطلاق مشروع التحديث الشامل الذي يقوده جلالة الملك عبدالله الثاني، تبدو الحاجة ملحة لتحديث أدوات الدولة ومؤسساتها بما يواكب طموحات المرحلة الجديدة. ومن بين هذه المؤسسات، تحضر مستشارية شؤون العشائر بوصفها مؤسسة عريقة، لكنها اليوم أمام منعطف حاسم لتجديد دورها وتطوير أدواتها، ليس فقط لمواكبة التحول، بل لتكون في صُلبه.
أكتب اليوم بعيدًا عن الحسابات الضيقة، وبمنأى عن المنافع، لأتحدث بصراحة في شأن أصبح مؤخرًا مبعثًا للقلق، بل يدعو للتحسّب من عواقب تراكمات طويلة ظلّت مسكوتًا عنها.
ولعلّ أبرز ما يجب التأكيد عليه في هذا السياق، أن الثبات على الحالة القديمة لا يعني بالضرورة الاستقرار؛ فالثبات قد يكون وجهًا آخر للجمود، بينما التغيير والتجديد والحداثة سمات ضرورية للاستمرارية والتنمية الوطنية.
مستشارية العشائر: من الإرث إلى المستقبل
منذ تأسيسها، ارتبطت مستشارية شؤون العشائر في الديوان الملكي الهاشمي مباشرة بالبنية الاجتماعية والسياسية للمجتمع الأردني. وقد لعبت دورًا مهمًا في التفاعل مع مكونات المجتمع العشائري، وكانت عبر عقود طويلة حلقة وصل بين القيادة والعشائر، وساهمت في صون النسيج الاجتماعي، والوساطة في النزاعات، والحفاظ على الاستقرار.
وفي كل زمان ومكان، كانت العشيرة ركيزة أساسية من ركائز المجتمع الأردني، لا فقط كمكون اجتماعي، بل كحامل لقيم الانتماء والمسؤولية والتكافل، بل وحتى كأداة من أدوات الضبط الاجتماعي.
وقد نجح الأردن عبر قيادته ومؤسساته، في تقديم نموذج متفرد في إدارة العلاقة بين الدولة والعشيرة، مقارنة بتجارب دول مجاورة واجهت صدامًا مؤلمًا بين الدولة والمجتمع الأهلي. هذه التجربة الأردنية التي جمعت بين الشرعية السياسية والشرعية المجتمعية، تستحق التأمل والدراسة.
لكن الزمن تغيّر، ومعه تغيّرت طبيعة العشيرة ودورها، ولم يعد كافيًا أن تبقى المستشارية تؤدي دورًا تقليديًا أو بروتوكوليًا، أو أن تدار كمنصب رمزي يُمنح لمكافأة متقاعد ما استوى خارج دائرة الإنتاجية المؤسسية.
إعادة بناء الدور: من التقليدي إلى التنموي والسياسي
العشيرة اليوم لم تعد فقط رابطة اجتماعية تنظم العلاقات بين الأفراد، ولم يعد دورها مقتصرًا على المناسبات والولائم، بل أصبحت فاعلًا تنمويًا وسياسيًا له تأثير مباشر على الواقع المحلي والوطني.
وقد أدركت كثير من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا، أهمية البُنى التقليدية في حفظ الاستقرار، وبدأت في دراسة كيفية إدماجها في منظومات الحكم الرشيد والتنمية المستدامة.
وفي السياق الأردني، يمكن لمستشارية العشائر أن تتحول إلى منصة وطنية متقدمة لتفعيل طاقات العشائر في المجالات التالية:
• التنمية المحلية والمجتمعية
• دعم اللامركزية والحكم المحلي
• التوعية السياسية والمشاركة المدنية
• المصالحة المجتمعية وتعزيز السلم الأهلي
لكن تحقيق هذه الرؤية يستوجب إعادة بناء شاملة لدور المستشارية، تستند إلى مرتكزات مؤسسية واستراتيجية، تشمل:
1. إعداد خطة استراتيجية وطنية شاملة
لا بد من تطوير خطة واضحة تُعرّف رؤية وأهداف مستشارية العشائر، وتُحدّد مؤشرات أداء قابلة للقياس، تتكامل مع خطط الوزارات والمؤسسات الوطنية، لتفعيل دور العشيرة في التنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
2. إعادة ضبط مفاهيم الزعامة والوجاهة
من أكبر الإشكالات الراهنة تسليع المكانة الاجتماعية، حيث تُمنح الوجاهة أحيانًا لمن يمتلك المال أو النفوذ، حتى لو افتقر للمكانة الأخلاقية أو المجتمعية، أو كان ممن يعبثون بقيم المجتمع.
باتت بعض المواقع تُحتل من قبل من لا يمثلون قيم العشيرة، من تجار المال، أو حتى تجار المخدرات، في استباحة خطيرة لمكانة الوجهاء الحقيقيين.
إن إعادة الاعتبار لموقع الشيخ والوجيه الحقيقي، صاحب الحكمة والرصيد الاجتماعي، ضرورة وطنية لإعادة التوازن إلى البنية المجتمعية.
3. تفعيل العشيرة كقوة ضاغطة لمكافحة الظواهر السلبية
بإمكان العشيرة أن تكون شريكًا فاعلًا في مواجهة التحديات الاجتماعية، من انتشار المخدرات وجرائم السلاح والعنف المجتمعي، إلى التحديات البيئية والتعليمية.
يمكن لها أن تعزز من حضور سيادة القانون، وتدعم جهود الدولة في فرض النظام، من خلال ضغطها المجتمعي وتأثيرها المباشر على سلوك الأفراد.
4. تحديث أدوات الاتصال والتواصل
لا يجوز أن تبقى أدوات عمل المستشارية مقتصرة على اللقاءات التقليدية والابتسامات الرسمية.
نحن بحاجة إلى منصات إلكترونية، فرق ميدانية، شراكات مع المجتمع المدني، وبرامج توعوية وإعلامية تُبرز الدور الوطني للعشائر، وتعيد دمجها في مشروع الدولة.
وأخيراً ..
إن إعادة بناء مستشارية شؤون العشائر ليست مجرّد تحديث إداري، بل هي إعادة تعريف للعلاقة بين الدولة والمجتمع، ولتمكين العشائر من المساهمة في بناء دولة حديثة عادلة تشاركية.
المطلوب اليوم ليس فقط الحفاظ على إرث العشيرة، بل تطويره، واستثماره في إطار قانوني ومؤسسي يعزز استقرار الدولة، ويخدم مشروعها الوطني في التنمية والتحديث.
العشيرة الأردنية لم تتأخر يومًا عن نداء الوطن، لكنها تستحق أن تُدار بعقل الدولة، لا بعقل الريع ولا بمعايير المنصب.
ومستشارية العشائر، إذا ما أعيد بناؤها وفق هذا المنطق، يمكن أن تكون رافعة استراتيجية حقيقية لبناء أردنٍ أقوى، وأعدل، وأكثر تماسكًا