هل من صحوة بعد الاستباحة؟
أ.د سلطان المعاني
10-09-2025 08:21 AM
الضربة الإسرائيلية التي هزّت الدوحة كانت كاشفًا لمعادلة مقلقة: إلى أي مدى صار الآخر يجرؤ على انتهاك حرمة العواصم العربية، ويستسهل سيادتها، ويختبر صبرها؟ السؤال الذي يفرض نفسه بعد هذا الحدث عن حالة الوعي الجماعي: هل تأخرنا عن الصحوة حتى غدونا أرضًا مفتوحة للاستباحة؟
الضربة في جوهرها، رسالة أبعد من الفعل المباشر لما حدث، فالرسالة هي إنّ لا مكان آمنًا، ولا حصانة حتى لموائد التفاوض، وأنّ اليد الطولى لإسرائيل تستطيع أن تمتد إلى حيث تشاء، متى تشاء. إنها معادلة ردع معكوسة: من يفترض أن يردع المعتدي، يجد نفسه مكشوفًا أمامه.
يفضي التحليل السياسي إلى ثلاث طبقات. الأولى، أن الضربة تُظهر فراغًا عربيًا في إدارة الأمن الجماعي، فلو كان هناك موقف رادع موحّد لما تجرأ الطيران الإسرائيلي على تجاوز الحدود الدولية بهذا الشكل. الثانية، أن الهشاشة تمتد إلى المجال الإعلامي حيث الرواية الإسرائيلية سبقت سريعًا إلى المنابر، بينما بقي الصوت العربي محصورًا في دائرة التنديد الأخلاقي، بلا قدرة على تحويل الاعتداء إلى فضيحة سياسية دولية. الثالثة، أن هذا الخرق يوقف عمليًا مساعي الوساطة، ويؤكد أن القوة الخشنة هي اللغة المفضّلة لإسرائيل حين تختلط السياسة بالدم. وأبعد من ذلك، فإن للحدث رمزية تاريخية تستحق التأمل. فهو يذكّر بما قاله ابن خلدون عن "قابلية الأمم للغلبة": حين تنام الأمم على رصيدها المادي أو الدبلوماسي وتغفل عن بناء هيبتها، تُختَبر بالضربة الأولى، فإذا لم تُجب بالردع الحاسم، توالت الضربات. الاسترخاص الذي تحدّث عنه الناس هو انعكاس لاختلال ميزان الهيبة. الآخر استرخصنا لأنه أدرك أنّ ردّنا لن يتجاوز الكلمات.
السؤال الملح اليوم: هل نكتفي بالتأبين السياسي لسيادتنا كلما اخترقتها طائرة أو صاروخ؟ أم نعيد النظر في البنية التي جعلتنا نتأخر عن الصحوة؟ المطلوب ليس بيانات شجب إضافية، ولا خطبًا عالية النبرة. المطلوب يقظة حقيقية: بناء تحالف عربي قادر على الردع، منظومة إعلامية تعرف كيف تفضح المعتدي بدل أن تبرّر له، ورؤية استراتيجية تجعل العواصم العربية حصونًا منيعة.
إنّ تأخر الصحوة يُداوى بالتحوّل. والحدث الأخير يجب أن يكون جرس إنذار لا يُسكَت عليه: فإما أن نعيد التوازن، أو نُكرّس معادلة الاستباحة. تلك هي المعادلة التي ستحدّد ما إذا كنا سنبقى في موقع المتلقي للضربات، أم سنستعيد زمام المبادرة ونفرض على الآخر أن يحسب حسابًا قبل أن يمدّ يده إلى سمائنا وأرضنا.
بعد أن نجح الآخر في تفكيكنا، لم يترك حتى مواقفنا البينية متماسكة. مع كل خطوة في مسار "التطبيع" أو ما سُمّي بالاتفاقيات الإبراهيمية، انكشفت الفجوة أكثر: سلام بلا عدالة، علاقات بلا سيادة، ووعود بلا ضمانات. ومن المفارقة أن الدولة الكبرى التي منحناها قواعد عسكرية لحمايتنا هي ذاتها التي وفّرت الغطاء أو التسهيل للضربة التي هزّت الدوحة. أما الاتحاد الخليجي الذي كان يَعِد بالتماسك، فقد بدا غائبًا، فيما جامعة الدول العربية لم تتجاوز بيان الشجب الذي صار تقليدًا يردّده الصوت العربي كلما وقع الجرح.
إن أردنا صحوة حقيقية، فلا بد أن نتهيأ لماراثون نصف القرن القادم، لا لسباق قصير يُطفئ الغضب في أيام ثم يتلاشى. الماراثون يعني بناء وعي جماعي جديد، يعيد تعريف الأمن القومي بوصفه مشروعًا عربيًا مشتركًا، لا وظيفة محصورة في عاصمة أو حاكم أو محور. ويعني إعادة صياغة علاقتنا مع العالم: ألا تبقى شراكاتنا مرهونة بمعادلات القواعد العسكرية، وإنما بعقود من التنمية والسيادة والاستقلال.
الصحوة ليست شعارًا؛ هي عمل طويل النفس، بطيء أحيانًا لكنه تراكمي. تبدأ من إصلاح الداخل، من استعادة الثقة بين الشعوب وحكوماتها، ومن إعادة الاعتبار لمؤسسات العمل العربي المشترك كي لا تبقى مجرّد أرشيف بيانات. الصحوة الحقيقية هي التي تجعل الضربة الأخيرة تُقرأ كمنعطف يفرض علينا أن نعيد تعريف موقعنا في العالم: بوصفنا أُمّة تشكل اتحاداً قادراً على الردع، على الحضور، وعلى صياغة المستقبل.