في يوليو/تموز 2025، وقفت المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيزي، أمام مجلس حقوق الإنسان لتقدّم تقريرًا غير مسبوق حمل عنوانًا صادمًا: «من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية». لم يكن تقريرًا تقنيًا عاديًا مليئًا بالمصطلحات القانونية، بل كان شهادة قاسية تكشف عن تحوّل الاحتلال الإسرائيلي من مجرد منظومة عسكرية أو سياسية إلى منظومة أعمق وأكثر خطورة: اقتصاد متكامل البنية، قائم على التهجير والاستبدال والتمكين الممنهج، تشارك فيه شركات عالمية من مختلف القطاعات، وتجني من ورائه أرباحًا طائلة على حساب معاناة الفلسطينيين.
منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، كما يوضح التقرير، دخل هذا الاقتصاد مرحلة جديدة أكثر تدميرًا. الأدوات القديمة للسيطرة لم تعد تكتفي بمصادرة الأرض والتحكم بالموارد، بل صارت تُستخدم في عملية أشمل من التعبئة الاقتصادية الممنهجة، حيث يُستهدف المجتمع الفلسطيني بكامله. لم يعد الاحتلال مشروعًا عسكريًا لإدارة الأرض، بل تحوّل إلى سوق ضخمة يُعاد فيها إنتاج الإبادة الجماعية بوسائل الاقتصاد والتمويل والتكنولوجيا.
تسرد ألبانيزي هذه التحوّلات بلغة واضحة، فتتحدث عن ثلاث مراحل مترابطة تشكّل أعمدة هذا الاقتصاد: تبدأ بالتهجير، حين يُطرد الفلسطيني من أرضه تحت قوة الجرافات والدبابات؛ تليها مرحلة الاستبدال، حين تُقام المستوطنات والبنى التحتية على أنقاض القرى المدمّرة؛ ثم تأتي مرحلة التمكين، حيث يدخل رأس المال العالمي والتكنولوجيا ومؤسسات البحث لإضفاء الشرعية على هذا الواقع وضمان استمراره.
لم يكتفِ التقرير بالكشف عن هذه البنية، بل رسم خريطة دقيقة للقطاعات التي تدعمها. فهناك الصناعات العسكرية والتقنية التي تزود آلة القمع بأحدث الأسلحة والأنظمة، وشركات المراقبة والاحتجاز التي تحوّل السجون إلى مصدر ربح، وشركات البناء والآليات الثقيلة التي تشارك في محو القرى وإقامة المستوطنات مكانها، واستغلال الموارد الطبيعية من مياه وغاز وكهرباء لمصلحة الاحتلال. حتى الزراعة والتجارة والسياحة وقطاعات التمويل الدولي والمؤسسات الأكاديمية لم تكن بعيدة عن هذه المنظومة، إذ وفرت الغطاء والتمويل والمعرفة لتكريس واقع الاحتلال وتحويله إلى مشروع اقتصادي مربح.
الأخطر من ذلك أن التقرير كشف أن الربح هو المحرك الأساسي لهذه المنظومة، لا الأمن كما تدّعي إسرائيل. فكل عملية قصف أو حصار أو هدم تتحول إلى فرصة استثمارية لشركات الأسلحة والتكنولوجيا والبناء والطاقة، بل وحتى للمنصات السياحية والتجارية التي تروّج لوجه آخر من الاحتلال. هكذا يصبح الفلسطيني ضحية مزدوجة: ضحية للعنف المباشر، وضحية لاقتصاد عالمي يستثمر في استمرار مأساته ويحوّل دمه إلى سلعة.
ولم يمر التقرير مرور الكرام. فقد أثار ضجة واسعة بعد أن سمّى شركات كبرى ضالعة في هذا الاقتصاد الإبادي. بعضها سارع إلى النفي، وبعضها التزم الصمت، فيما رفضت البعثة الإسرائيلية في جنيف التقرير ووصفته بالمنحاز. لكن ألبانيزي واجهت هذه الردود بالتأكيد أن الحقائق واضحة: الشركات تدرك تمامًا طبيعة ما تشارك فيه، والربحية هي البوصلة التي توجه هذا النظام.
أما التوصيات التي خلص إليها التقرير، فكانت على قدر جسامة ما كشفه. دعا الدول إلى فرض عقوبات شاملة وحظر تصدير السلاح وتعليق العلاقات التجارية والاستثمارية مع الجهات المتورطة، وطالب الشركات بالتوقف الفوري عن أنشطتها غير المشروعة وتعويض الضحايا، كما دعا المحاكم الوطنية والمحكمة الجنائية الدولية إلى التحقيق في دور الشركات ومحاسبة مديريها التنفيذيين، وطالب الأمم المتحدة بتوسيع قاعدة بياناتها لتشمل جميع الكيانات الضالعة في هذا الاقتصاد الدموي.
في المحصلة، يرسم التقرير صورة قاتمة لاقتصاد بات قائمًا على الإبادة، تتحول فيه أدوات السوق والتجارة والتمويل إلى محركات للعنف والتهجير. لم يعد ما يجري في فلسطين مجرد صراع سياسي أو عسكري، بل سوق عالمية للربح على حساب حقوق الإنسان. وهنا يكمن التحدي الأكبر أمام المجتمع الدولي: ليس فقط في إدانة الانتهاكات، بل في إعادة توجيه رأس المال بعيدًا عن منظومات الاستعمار والاستيطان، وبناء نظام اقتصادي عالمي لا يجعل من الدمار والمعاناة مصدرًا للربح.
إن تقرير فرانشيسكا ألبانيزي لا يفضح فقط بنية الاحتلال العسكرية والسياسية، بل يكشف عن أخطر أشكاله: تحويل الإبادة إلى اقتصاد مربح، تشارك فيه الشركات العالمية والمؤسسات المالية والبحثية، لتصبح المأساة الفلسطينية سلعة في سوق معولمة. إنه إنذار صارخ للعالم بأن الصمت لم يعد حيادًا، بل استثمارًا في الدماء. والمعادلة اليوم أوضح من أي وقت مضى: "من يربح من الإبادة شريك فيها".