منذ اندلاع الحرب على غزة، تتوالى التصريحات الغربية والعربية على حد سواء لتضع إسرائيل في مشهد غريب: دولة ديمقراطية عريقة، اختطفها رجل واحد هو بنيامين نتنياهو ومعه حفنة من الوزراء المتطرفين. فجأة يصبح الاحتلال الممتد لسبعة عقود "أزمة شخص"، وتتحول المأساة الفلسطينية من مأساة استعمار إلى مأساة حكومة.
استعراض القوة وفرض سياسة الأمر الواقع
لم تعد إسرائيل اليوم تُختبر فقط في حدود فلسطين المحتلة. فمن قصف صنعاء ودمشق وبيروت، وصولاً إلى ضرب السفن المتجهة نحو غزة على سواحل تونس، ثم قصف الدوحة نفسها، تبدو إسرائيل وكأنها تمارس استعراضاً عضلياً غير مسبوق. الرسالة واضحة: الكلمة الأولى والأخيرة في هذا الشرق لي وحدي. هذه ليست حروباً متفرقة، بل سياسة أمر واقع تستهدف المنطقة بأكملها، حيث تتحول الدول إلى أدوات وظيفتها تأمين أمن إسرائيل الحيوي. وهنا تكمن خطورة اختزال الأزمة في شخص نتنياهو، لأنها تتيح التعمية على حقيقة أن ما يجري ليس نزوة فرد، بل مشروع دولة ومجتمع يريد ابتلاع المجال العربي وتحويله إلى فضاء أمنه الاستراتيجي.
تواطؤ الخطاب الرسمي والإعلامي
الخطابات الرسمية العربية والدولية والتصريحات الصحفية تكاد لا تذكر مؤسسة الجيش التي حوّلت غزة إلى رماد، ولا جهاز الموساد والشاباك مهندسي الاغتيالات، ولا المحكمة العليا التي شرعنت الاستيطان والتهجير، ولا الجمعيات المدنية والحركات الدينية التي تؤطر المجتمع الصهيوني على عقيدة التفوق والسيطرة. كل ذلك يغيب عمداً، وكأن هناك قراراً بتبرئة هذه المؤسسات والإبقاء على الأزمة محصورة في نتنياهو وحكومته.
صناعة صورة إسرائيل "الطيبة"
بهذا التلاعب، تُفرض على الوعي العربي صورة زائفة: إسرائيل الديمقراطية الجميلة، التي انحرفت عن مسارها بسبب ديكتاتور عابر. المطلوب أن نصدق أن الحل يكمن في رحيل الرجل، وأن إسرائيل "الطيبة" ستعود إلى رشدها. إنها صناعة وعي مضلل يميز بين إسرائيل كدولة ونتنياهو كفرد، وكأن الاحتلال والقتل والاستيطان لم تكن مشروعاً أصيلاً منذ بداياته.
المجتمع الإسرائيلي شريك في المشروع
لم يكن المشروع الصهيوني مشروع نخب سياسية فقط، بل هو قبل كل شيء مشروع مجتمع. الإعلام العبري يصوغ وعياً يومياً مشبعاً بالعقيدة الأمنية والعداء للعرب؛ المناهج التعليمية تزرع منذ الصفوف الأولى فكرة "أرض الميعاد" و"حق التفوق"؛ والمستوطنون أنفسهم يشكلون حاضنة اجتماعية وسياسية تضغط باستمرار لتوسيع الاستيطان وتشديد القمع. بهذا المعنى، لا يمكن الحديث عن إسرائيل "الطيبة" مقابل نتنياهو "الشرير"، لأن البنية المجتمعية نفسها قائمة على إنتاج التطرف وإعادة إنتاجه عبر التعليم والإعلام والاقتصاد الاستيطاني.
سياسة إنقاذ إسرائيل من نفسها
الغرب يعرف أن صور الإبادة في غزة أضعفت صورة إسرائيل أخلاقياً، لكنه لا يريد فقدانها كحليف استراتيجي. فاخترع خطاباً مزدوجاً: يهاجم نتنياهو بشراسة ليمنح شعوبه صمام تنفيس أخلاقي، لكنه يتعمد تجاهل المؤسسات، حتى لا يفتح باب النقاش عن بنية المشروع الصهيوني نفسه. هكذا تتم عملية إنقاذ إسرائيل من نفسها، عبر تقديم كبش فداء اسمه نتنياهو.
المفارقة الصارخة .. ازدواجية المعايير الغربية
المنطق الغربي أسقط أنظمة عربية بكاملها بحجة الديكتاتوريات التي تهدد الاستقرار:
*العراق احتُل ودُمرت مؤسساته بحجة أنه تحت قبضة ديكتاتور.
*ليبيا جرى اجتثاث نظامها بذريعة طاغية يهدد الأمن.
*بشار الأسد وُضع على لوائح الإدانة باعتباره فقد شرعيته وحكمه خطر على المنطقة.
فإذا كان المنطق الغربي هو إسقاط الديكتاتور الذي يخطف الدولة ويهدد الأمن، فلماذا لا يُطبَّق على نتنياهو؟ أليس هو اليوم أخطر على السلم الدولي من أي زعيم عربي أطاحوا به؟ أليست سياساته التوسعية وجرائمه ضد المدنيين وقصفه لدول الجوار تهديداً مباشراً للاستقرار الإقليمي والعالمي؟
لكن الجواب واضح: حين يكون "الديكتاتور" إسرائيلياً، يصبح فجأة مجرد "مشكلة داخلية"، ويُعامل كعَرَض سياسي يمكن تجاوزه بانتخابات أو تحالفات جديدة. لماذا؟ لأن الاعتراف بأن الأزمة أعمق من نتنياهو يعني الاعتراف بأن إسرائيل ذاتها مشروع أزمة، وهذا ما لا يريد الغرب مواجهته.
جوهر الأزمة .. مشروع دولة لا أزمة فرد
الاحتلال لم يكن يوماً أزمة أفراد ولا نتنياهو وحده، بل هو مشروع دولة ومجتمع متكامل يتجدد في كل دورة انتخابية ويتلون مع كل زعيم جديد، لكنه يظل ثابتاً في جوهره: استعمار الأرض واستلاب الوعي.
سيناريو ما بعد نتنياهو
إذا استمر الخطاب في حصر الأزمة في نتنياهو، فسنكون أمام سيناريو خطير: سقوط نتنياهو لن يعني سقوط المشروع الصهيوني، بل تجديد شرعيته عبر وجه جديد يبيع للعالم صورة “إسرائيل المتجددة”. سنجد أنفسنا أمام موجة تطبيع جديدة تُسوّق باعتبارها “فرصة ما بعد نتنياهو”، بينما تتحول المأساة الفلسطينية إلى مجرد محطة عابرة في مسيرة “إسرائيل الديمقراطية”.
كسر الوهم
الخطر ليس في بقاء نتنياهو أو رحيله، بل في الوهم الذي يُصنع اليوم: أن إسرائيل يمكن أن تكون "دولة طبيعية" بمجرد أن يتغير وجه قيادتها. السكوت عن دور الجيش، والمؤسسات الأمنية، والقضاء، والمجتمع الاستيطاني، هو تواطؤ معرفي وسياسي يهدف إلى حماية إسرائيل من مواجهة حقيقتها. خطورة هذا الخطاب أنه يسعى لتخدير الوعي العربي والغربي وإقناع الأجيال أن "المشكلة في نتنياهو"، والتحضير لما بعد نتنياهو وهو الأشد خطورة حين يرحل “الشرير” ويحل محله “الطيّبون”، سيغدو البعض أكثر استعداداًً للاصطفاف في حضن إسرائيل، والانخراط في موجة جديدة من التطبيع، بينما تصبح فلسطين مجرد محطة عابرة أو ذكرى توضع على رفوف المكتبات، أو حديثاً في الذكريات، في مشروع دولة يبتلع الأرض والوعي بلا هوادة.