دولة مارقة وليست حكومة فقط
د. صالح سليم الحموري
12-09-2025 07:30 PM
اهتزّ العالم على وقع غارة إسرائيلية استهدفت قلب العاصمة القطرية الدوحة. ووفق المعطيات الأولية، كان الهدف المعلن اغتيال الصف الأول من قيادات حركة حماس. غير أنّ العملية انتهت بفشل ذريع؛ إذ نجا جميع المستهدفين، فيما قُتل ابن نجل القيادي خليل الحية ومدير مكتبه، وأُصيب مدنيون وعدد من أفراد الأمن القطري كانوا يؤدّون واجبهم في حماية الضيوف.
لم يكن ما جرى مجرد عملية عسكرية عابرة، بل عدوانًا سافرًا على سيادة دولة آمنة، وهو ما أكّدته الأمم المتحدة وغالبية دول العالم. إنها رسالة صادمة بأن إسرائيل لم تعد تعترف بأي خطٍّ أحمر، سواء كان أخلاقيًا أم قانونيًا، ففي أشدّ الحروب وأقسى النزاعات، يظل احترام سيادة الدول وحماية المدنيين حدًا أدنى من الأخلاق والقانون، غير أن ما وقع في الدوحة كشف انهيارًا كاملًا لهذه الحدود وتحديًا متعمدًا للقيم الدولية والإنسانية.
ينص ميثاق الأمم المتحدة في مادته الثانية على حرمة أراضي الدول وحقها في الأمن، ويحظر استخدام القوة ضد سلامتها الإقليمية. إن تنفيذ عملية عسكرية في عاصمة دولة ذات سيادة، من دون تفويض أممي أو إذن من حكومتها، يمثل انتهاكًا فاضحًا للقانون الدولي وسابقة بالغة الخطورة تهدد الاستقرار العالمي. التساهل مع هذا الفعل يفتح الباب لتكرار انتهاكات مماثلة في أي مكان، ويقوّض الأسس التي أُقيم عليها النظام الدولي لحماية السلم والأمن بعد الحرب العالمية الثانية.
يزداد وقع الجريمة فداحة حين نعلم أن الهجوم جاء في توقيت دقيق من مفاوضات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، وهي مفاوضات ترعاها أطراف إقليمية ودولية. إن استهداف قادة حماس في هذه اللحظة لا يمكن فصله عن محاولة متعمدة لإفشال المساعي الدبلوماسية وإعادة موازين التفاوض لصالح منطق القوة، في تناقض صارخ مع مبادئ الحوار والتسوية السلمية.
أكثر من ذلك، فإن الضحايا – من عائلات قيادية ومدنيين وأفراد أمن قطري – لا يشكّلون بأي معيار أهدافًا عسكرية مشروعة. اتفاقيات جنيف تلزم الأطراف المتحاربة بحماية المدنيين والمنشآت غير العسكرية، وهو التزام جرى دهسه بدمٍ بارد. السماح بعمليات عبر الحدود تحت ذريعة “الضرورات الأمنية” يفتح الباب أمام سلسلة من السوابق الأخطر :دول تُقصف من دون إنذار، وأراضٍ تتحول إلى ساحات لتصفية الحسابات، وثقة دولية تنهار، وسباق مفتوح لاختراق السيادات الوطنية.
لقد تجاوزت إسرائيل، بوصفها "دولة مارقة" وعن وعي وتصميم، الحدود الدنيا للأخلاق حتى في أزمنة الحروب. فالحروب – مهما بلغت قسوتها – لا تُعفي من احترام سيادة الدول، ولا من حماية المدنيين، ولا من صون قنوات الحوار، غير أن ما جرى في الدوحة يثبت أن منطق القوة العمياء طغى على القانون والأخلاق معًا، في سابقة خطيرة تهدد النظام الدولي وتكشف انهيار القيم التي يفترض أن تحكم العلاقات بين الدول.
إن الصمت الدولي على هذه الجريمة، مقرونًا بعدم اتخاذ إجراءات فعلية بحق المعتدي، لا يهدد حقوق قطر وفلسطين فحسب، بل يضرب أسس النظام الدولي بأكمله، فالتغاضي عن مثل هذا العدوان يفتح الباب أمام مرحلة يصبح فيها اغتيال الخصوم على أراضي الغير أمرًا مألوفًا ومقبولًا، وكأن القانون الدولي مجرد حبر على ورق.
لقد آن الأوان لموقف عالمي حازم يعيد الاعتبار إلى القانون الدولي، ويؤكد أن سيادة الدول وكرامة الإنسان خطوط حمراء لا يجوز المساس بها تحت أي ذريعة، أما الاكتفاء ببيانات شجب وإدانات شكلية، أو الاحتماء بصمت دبلوماسي مموَّه، فليس سوى تفويض صريح لشريعة الغاب وتكريس لواقع يقدّم منطق القوة على مبادئ الحق والعدالة.