عندما كتب توماس فريدمان قبل نحو عقدين كتابه الشهير العالم مسطّح، كان يستشرف عصرًا تتهاوى فيه الجدران وتختفي الحدود وتتوحد الأسواق، حيث يتصل الجميع بالجميع بلا عناء، وتصبح الكفاءة وسرعة التبادل هي القانون الأعلى. كان وصفه يومها دقيقًا لزمن انفتاح رقمي وتدفق حرّ للمعلومات والبضائع والأفكار، زمن ولّدته ثورة الإنترنت وسلاسل التوريد العابرة للقارات وانتصار العولمة الليبرالية. لكن هذا المشهد، الذي بدا وكأنه قدر التاريخ، لم يبقَ على حاله. فالعالم الذي بدا مسطّحًا في مطلع القرن الحادي والعشرين بدأ اليوم يستعيد وعورته وحدوده، ويكشف عن تضاريس جديدة تجعل الانتقال والتواصل أكثر تعقيدًا. باختصار، العالم أصبح غير مسطّح.
ما الذي تغيّر إذن؟
أول ما يلفت النظر هو عودة الجغرافيا والسياسة بكل قوتها. فإذا كان سقوط جدار برلين رمزًا لتحرّر الأسواق واندماجها، فإن العقدين الأخيرين شهدا عودة الجدران وإن بملامح مختلفة: حروب تجارية، عقوبات اقتصادية، مناطق نفوذ مغلقة، وتنافس محموم على الطاقة والمعادن النادرة. لم تعد السلع وحدها هي ما يعبر الحدود، بل باتت البيانات والمعايير والخوارزميات نفسها تخضع لسيادة الدول، فأصبح تدفق المعلومات الذي كان رمزًا للعولمة يخضع لقوانين توطين البيانات والخصوصية وحوكمة الذكاء الاصطناعي.
وفي موازاة ذلك، تغيّرت فلسفة الاقتصاد من السعي إلى الأرخص والأسرع إلى البحث عن الأمان والمرونة. فبعد عقود من تبنّي مبدأ «الإنتاج في الوقت المناسب» انتقلت الشركات إلى استراتيجية «الإنتاج في حالة الطوارئ» التي تقوم على تنويع سلاسل التوريد وتخزين احتياطيات إستراتيجية، حتى لو كلّف ذلك أكثر. وقد أدى هذا التحول إلى إعادة التصنيع محليًا أو إقليمياً، فيما يعرف اليوم بإعادة التموضع أو «الصين + 1»، بعد أن كان نقل التصنيع إلى مناطق منخفضة التكلفة عنوانًا للحكمة الاقتصادية.
أما الإنترنت الذي حلم به فريدمان فضاءً موحدًا، فقد انقسم إلى فضاءات متوازية. لم يعد المتصفح أو البريد الإلكتروني يوحّد المستخدمين، بل نشهد اليوم ما يمكن تسميته «سبلينترنت»: شبكات رقمية متعددة تخضع لسلطات سياسية وثقافية وتنظيمية مختلفة، لكل منها قوانينها الخاصة في التشفير والخصوصية والمحتوى. ومع هذا الانقسام، تحوّلت شركات المنصات الكبرى إلى «حدائق مسوّرة»، تفرض على المستخدمين والمنتجين قواعدها الخاصة وتحتكر القيمة المضافة خلف جدرانها الرقمية.
وفي قلب هذه التحولات يقف الذكاء الاصطناعي، الذي كان يُنظر إليه بوصفه أداة لتحرير المعرفة، فإذا به يصبح مصدرًا جديدًا للاحتكار. فالتقنيات التي تتطلب قدرات حوسبة هائلة وبيانات ضخمة وشرائح متقدمة تعيد تشكيل الخريطة العالمية، حيث تهيمن على مفاتيحها قلة من الدول والشركات. حتى فكرة المصادر المفتوحة التي كانت جوهرة الانفتاح أصبحت مشروطة بتراخيص معقدة وقيود تجارية وأمنية.
إلى جانب ذلك، برزت اعتبارات مناخية تضيف بدورها جدرانًا جديدة. فسياسات الكربون وحدود الانبعاثات ومفهوم «سلاسل التوريد الخضراء» أصبحت أدوات حمائية تفرض رسوماً وضوابط قد لا تقل صرامة عن الرسوم الجمركية التقليدية. أما على المستوى المجتمعي، فقد أدت خوارزميات المنصات الاجتماعية إلى تشكيل فقاعات مغلقة من الرأي والمعلومة، فأصبح العالم أكثر اتصالًا لكنه أقل تفاهمًا، وانكمشت الساحة المشتركة للنقاش العام.
كل ذلك يعني أن العولمة لم تنتهِ، لكنها بدّلت جلدها. العالم اليوم ليس سهلًا مستويًا، بل هو عالم مدرّجات وتضاريس؛ فيه مناطق مفتوحة وأخرى مغلقة، وطبقات متشابكة من السيادة الرقمية، والمعايير التقنية، والمصالح الجيوسياسية. لم يعد ممكنًا الاكتفاء بالخيال الذي ساد في مطلع الألفية عن سوق واحدة وقواعد موحّدة. المطلوب اليوم هو إدارة هذا الواقع الجديد بوعي: بناء جسور تشغيل بيني للبيانات، وصياغة تحالفات للمعايير التقنية، ووضع أطر حوكمة للذكاء الاصطناعي، وتطوير تعليم ومهارات تجعل الأفراد أقدر على التنقل بين هذه الطبقات.
إن العالم غير المسطّح لا يعني عودة كاملة إلى الانعزال، لكنه يعني أن الانفتاح صار مشروطًا ومدارًا. إنه عالم لا يكفي فيه أن نرفع شعار «الحدود سقطت»، بل يجب أن نتقن فنّ التنقل بين الحدود. في هذا المشهد الجديد، لن يكون النجاح حكرًا على من يملك رأس المال أو التكنولوجيا فقط، بل على من يفهم خريطة التضاريس الجديدة ويعرف كيف يصنع مفاتيحها.
لقد تغيّر المشهد جذريًا، ومعه انهارت فرضية «العالم المسطّح» التي صاغها توماس فريدمان. عذرًا يا فريدمان، العالم الذي تنبأت بانبساطه عاد اليوم ليرتفع بقمم وحدود وأسوار ذكية، معلنًا فشل تلك الرؤية في مواجهة حقائق الجغرافيا والسياسة والتقنية الجديدة.