facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




شارع الخالدي يحتضر… هل يخسر الأردن سمعته كوجهة علاجية عالمية؟


د. محمد الحدب السرحان
15-09-2025 12:01 PM

كان شارع الخالدي في عمّان لعقود طويلة بمثابة القلب النابض للطب الأردني الخاص، وواجهةً بارزة يقصدها المرضى من الأردن والعالم العربي على حد سواء. غير أنّ هذا الشارع الذي كان يومًا يعج بالحركة أصبح اليوم أشبه بفضاء صامت، بعد أن أغلقت مئات العيادات والمراكز الطبية أبوابها، حيث تشير التقديرات إلى أنّ 367 عيادة ومركزًا طبيًا أُغلقت منذ بداية العام الحالي، في صورة تختصر أزمة أعمق يعيشها القطاع الصحي الخاص. فالإيجارات المرتفعة والتكاليف التشغيلية الباهظة، إضافة إلى تأخر شركات التأمين في تسديد مستحقات الأطباء وتخفيض أجورهم، ورفض بعض المطالبات الطبية، جعلت بيئة العمل مرهقة، ودَفعت العديد من الكفاءات الطبية الأردنية إلى الهجرة نحو أسواق خليجية، لتصبح خسارتنا مزدوجة: فقدان رأس المال البشري وتراجع الاستثمار الصحي في الداخل.

هذه الأزمة تنعكس مباشرة على مكانة الأردن في مجال السياحة العلاجية، وهو قطاع لطالما كان أحد أعمدة الاقتصاد الوطني ومصدرًا مهمًا للنقد الأجنبي. فالأردن احتل في سنوات مضت المرتبة الأولى إقليميًا والعاشرة عالميًا في هذا المجال، مستندًا إلى سمعته المرموقة وكفاءاته الطبية المتقدمة. غير أن الأرقام الأخيرة تكشف مسارًا مقلقًا. ففي عام 2023 استقبلت المملكة نحو مئتي ألف زائر بغرض العلاج، محققين عوائد بلغت قرابة 119 مليون دينار. وفي عام 2024 ارتفع العدد قليلًا ليسجل أكثر من 224 ألف زائر، ما أوحى بوجود تعافٍ تدريجي. أما في الشهور الخمسة الأولى من عام 2025 فقد بلغ عدد الزوار نحو 92 ألفًا و776 مريضًا ومرافقًا، بزيادة تقارب 16.5% عن الفترة ذاتها من العام السابق، وسجل الربع الأول وحده أكثر من 51 ألف زائر. ورغم أن هذه المؤشرات تعكس بوادر تحسن، فإنها تبقى محدودة أمام حجم التحديات واتساع الفجوة مع المنافسين.

تُظهر المقارنة الإقليمية حجم التحدي الذي يواجه الأردن. ففي عام 2023 حققت تركيا إيرادات قاربت 2.3 مليار دولار من السياحة العلاجية، لترتفع في عام 2024 إلى نحو 3.02 مليار دولار من أكثر من 1.5 مليون مريض دولي، وذلك بفضل اعتمادها نموذج الحِزم العلاجية المتكاملة التي تجمع بين العلاج والإقامة والنقل والمتابعة. في المقابل، ورغم ما يتمتع به الأردن من كفاءات طبية عالية المستوى وبنية استشفائية متقدمة، ما يزال يعاني من ضعف التسويق وتشتت الإجراءات، فيما تبقى مبادرة وزارة الصحة لإطلاق حِزم علاجية عبر منصة "سلامتك" خطوة أولى واعدة، لكنها بحاجة إلى تسريع وتوسيع حتى تتحول إلى أداة منافسة قادرة على استعادة مكانة الأردن الإقليمية.

انعكاسات هذه التراجعات لا تقف عند حدود الأرقام، بل تمتد إلى بنية الاقتصاد المحلي. فإغلاق مئات العيادات في شارع الخالدي يعني خسائر مباشرة بملايين الدنانير سنويًا، بين إيجارات ورواتب وخدمات مساندة، فضلًا عن تراجع إنفاق المرضى الوافدين ومرافقيهم في قطاعات الفندقة والمطاعم والنقل والتسوق. وتشير بعض التقديرات إلى أن إغلاق كل مئة عيادة قد يكلف الاقتصاد ما بين 3.6 إلى 6 ملايين دينار سنويًا، وإذا ارتفع العدد إلى أكثر من ثلاثمئة عيادة فإن الكلفة قد تتجاوز العشرين مليون دينار، من دون احتساب الخسائر غير المباشرة الناتجة عن انخفاض السياحة العلاجية.

ورغم توفر المقومات الطبية والسمعة الإقليمية، إلا أن أسباب التراجع عديدة، تبدأ من التعقيدات الإدارية التي تواجه المرضى في الحصول على التأشيرات، مرورًا بغياب خطوط الطيران المباشرة مع أسواق رئيسية ، وصولًا إلى ضعف التسويق الدولي وتشتت الجهود بين الجهات الرسمية والخاصة. وقد زاد من حدة الأزمة ظهور أسواق منافسة تقدم أسعارًا أقل وحِزمًا علاجية أكثر جاذبية، مثل تركيا والهند ومصر، فضلًا عن تأثير الأزمات الإقليمية التي حدّت من حركة المرضى في السنوات الأخيرة.

إنقاذ شارع الخالدي والقطاع الطبي الخاص لا يتطلب حلولًا تقليدية، بل رؤية جديدة تتجاوز المسكنات. المطلوب اليوم تشريع خاص للسياحة العلاجية يحدد بوضوح العلاقة بين الأطباء والمستشفيات وشركات التأمين، ويضمن آلية عادلة لتسعير الخدمات وسقفًا زمنيًا ملزمًا لتسديد المطالبات، مع فرض غرامات تأخير تُعيد الانضباط المالي للسوق. كما أن إنشاء صندوق سيولة مستقل يشتري المطالبات الطبية من الأطباء والمستشفيات بخصم بسيط، ثم يستردها من شركات التأمين لاحقًا يمكن أن يوقف نزيف السيولة ويدعم استمرارية العيادات.

على مستوى التسويق، لا بد من تفعيل الحِزم العلاجية الرسمية المضمونة السعر عبر منصة وطنية موحدة، بحيث تشمل العلاج والإقامة والنقل والخدمات اللوجستية، مع توفير نظام حجز ودفع مسبق. وينبغي أن ترافق هذه الجهود حملات رقمية موجهة باللغات المختلفة في الأسواق المستهدفة، إلى جانب إنشاء ملحقيات صحية في السفارات الأردنية للترويج للقطاع. كما أن تطوير مراكز امتياز تخصصية في مجالات القلب والمفاصل والعمود الفقري والعيون والتجميل، مع نشر مؤشرات الأداء السريرية بشفافية، سيعزز من ثقة المرضى ويدعم السمعة الدولية للأردن.

أما على صعيد شارع الخالدي تحديدًا، فيمكن التفكير في نماذج مبتكرة لتقليل الكلف مثل العيادات المشتركة بين أكثر من طبيب لتقاسم المصاريف، والتحول نحو العيادات الهجينة التي تجمع بين الخدمة الحضورية والمتابعة عبر الطب عن بعد. كما يمكن إنشاء مجمعات خدمية مشتركة تدير الفوترة والتأمين وشراء المستلزمات بشكل مركزي لتقليل الأعباء على كل عيادة منفردة.

إن ما يحدث في الخالدي اليوم ليس مجرد أزمة محلية لشارع أو حي، بل إنذار مبكر لمكانة الأردن كوجهة علاجية عالمية. فالقوة الطبية الأردنية لا جدال فيها، لكن السوق تغير ولم يعد يكفي أن نكون جيدين فقط؛ بل يجب أن نكون منظمين وسريعين ومرنين في التسعير والتسويق. الفرصة ما تزال قائمة لاستعادة الصدارة، لكن الأمر يتطلب خطة وطنية شاملة تعيد الثقة للأطباء، وتُطمئن المستثمرين، وتُقنع المريض العربي والدولي بأن الأردن يبقى الخيار الأمثل للعلاج الآمن والمتميز.

وإضافةً إلى كل التحديات السابقة، يبرز أيضًا تحدي تطبيق نظام الفوترة الوطني الإلكتروني، الذي أصبح إلزاميًا على العيادات والمنشآت الطبية. ورغم أن الهدف المعلن لهذا النظام هو تعزيز الشفافية وزيادة الإيرادات الضريبية، إلا أن تطبيقه أثار موجة من الشكاوى خاصة بين العيادات الصغيرة والمتوسطة. فالكثير من الأطباء يرون أن دائرة الضريبة تتعامل مع الفوترة بعقلية ضيقة تركز فقط على تحصيل الإيرادات، من دون النظر إلى الكلف المباشرة وغير المباشرة التي يفرضها النظام، مثل شراء البرمجيات، تكاليف الربط التقني، التدريب، وضغط السيولة الناتج عن تأخر المطالبات. كما أشار أطباء ومستشفيات إلى أن تعقيدات المطابقة مع شركات التأمين والتأخر في السداد تزيد من الأعباء بدل أن تسهم في تنظيمها. وإذا استمر التعامل مع الفوترة بهذا الشكل، فقد تتحول إلى عبء يسرّع من إغلاق المنشآت الصغيرة ويضعف تنافسية القطاع الصحي الأردني، بدل أن تكون أداة إصلاح وتنظيم تعزز ثقة المرضى وتدعم الاقتصاد على المدى الطويل.

ولا أعتقد أن التشدد في تحصيل الضريبة من جميع القطاعات يجب أن يكون الهدف الأسمى للسياسات المالية. صحيح أن نظام الفوترة الوطني قد يرفع إيرادات الحكومة على المدى القصير، لكنه على المدى الطويل قد يُلحق أضرارًا جسيمة بالاقتصاد عبر إغلاق العديد من العيادات والمحال، وبالتالي حرمان السوق من فرص العمل والدوران الاقتصادي الذي تولده هذه المنشآت من خلال التوظيف وشراء الخدمات ودفع الإيجارات. النتيجة ستكون آثارًا سلبية لا تُحمد عقباها إذا ظل التفكير الضريبي محصورًا فقط في كيفية زيادة الإيرادات، بدل النظر إلى الصورة الأشمل. وللأسف، رُسمت صورة نمطية غير عادلة عن أطباء القطاع الخاص بأنهم جشعون أو متهربون من الضريبة، مع أن الواقع مختلف تمامًا، وما يحدث في شارع الخالدي اليوم هو أكبر دليل على أن الأزمة أعمق من هذه الانطباعات السطحية. ومن هنا، فإن المطلوب أن تتحلى دائرة ضريبة الدخل والمبيعات بالبعد الاقتصادي الشامل وأن تكون قراراتها قائمة على فهم عميق لتأثير السياسات على المدى الطويل، لا أن يُختزل تقييمها فقط بما تجمعه من ضرائب في فترة قصيرة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :