الثانوية العامة الجديدة .. من التحديات إلى التمكين
فيصل تايه
15-09-2025 12:39 PM
في زمن تتسارع فيه التحولات وتتشابك فيه التحديات، لم يعد التعليم مجرد وسيلة لنقل المعارف، بل اصبح محوراً اساسياً في تشكيل وعي الأجيال وبناء المستقبل ، لذلك ومن هذا المنطلق، اتجهت وزارة التربية والتعليم الى تطبيق نظام الثانوية العامة الجديد ، سعياً لمواكبة التطورات العالمية وتلبية متطلبات العصر ، غير ان هذه التحولات الكبرى لا يمكن ان تقاس بجرأة القرار فحسب، بل بقدرة التنفيذ ووضوح الرؤية، وهو ما يجعل مناقشة التجربة وتحليلها ضرورة، حتى يتضح الطريق بين ما هو طموح على الورق وما هو ممكن على أرض الواقع.
ان اي إصلاح تعليمي حقيقي لا يختبر في لحظة اطلاقه، بل في قدرته على الصمود امام التحديات اليومية وتحقيق التوازن بين الطموح والإمكانات ، اذ ان ما قامت به وزارة التربية والتعليم من جهود في تحديث المناهج وتنويع المسارات يمثل خطوة تستحق التقدير ، لكن قيمتها الحقيقية تتوقف على استكمال البناء ، وتصحيح المسار ، وضمان العدالة بين جميع الطلاب ، فالمشاريع التعليمية ليست مجرد مشاريع إدارية أو تجارب عابرة، بل استثمار طويل المدى في الإنسان ، ومتى وضع الطالب في صدارة الأولويات، تحققت الغاية الكبرى في صناعة مستقبل أكثر وعياً وعدلاً ورسوخاً .
اليوم ، وبعد أن وضع هذا النظام موضع التنفيذ، وأصبح واقعاً مطبقاً ، بات من الضروري تقييم التجربة بعيداً عن المجاملة، والوقوف عند أبرز التحديات التي واجهتها ، رغم ان التحديات في تطبيق نظام الثانوية العامة الجديد تتداخل مع مشكلات مزمنة في التعليم وسياسات القبول الجامعي ، لكن التجربة كشفت عن محدودية التوجيه المهني والأكاديمي ، وغياب التأهيل الجاد للكوادر المسؤولة عن هذا الدور الحيوي ، اذ كان من الأولى أن تسبق التطبيق عملية تهيئة شاملة تستهدف مجتمع التربية والتعليم ، وطلبة الثانوية العامة على وجه الخصوص، وتشرك معها جميع الأطراف المتداخلة في هذا المشروع الوطني ، ما يمنع ارتباك البدايات الذي انعكس سلباً على جوهر الفكرة ، غير ان غياب هذه الخطوة الجوهرية جعل التطبيق يبدو وكأنه قفزة غير محسوبة، وهو ما انعكس مباشرة على استقرار التجربة ومصداقيتها.
اليوم يجب أن نعترف بأن تطبيق نظام الثانوية العامة الجديد ترك شريحة واسعة من الطلبة وأولياء أمورهم في حالة من التشويش والقلق والاضطراب ، بسبب غياب الفهم الواضح لآلياته، خصوصاً ما يتعلق باختيار الحقول والتخصصات وتعددها بشكل يفوق قدرة المدارس على الاستيعاب ، اضافة الى السماح بدمج الحقول وما تبعها من ارباكات سببت عبئاً على الطلاب ووضع المدارس أمام تحديات تتجاوز إمكاناتها ، اذ ان الخيارات التي روج لها باعتبارها ابواباً لفرص اوسع ، تحولت في الواقع الى عبء نفسي وضغط مضاعف، نتيجة الفجوة بين السياسات المعلنة وما هو متاح فعلاً داخل المدارس .
وما يزيد تعقيد الصورة ايضاً هو أن غياب بعض التخصصات أو صعوبة الوصول إليها خلق ضغطاً اضافياً على الأسر ، اذ ان الكثير من الحقول المضافة بدت على الورق واعدة ، لكنها سرعان ما تعثرت أمام واقع مربك ، كالنقص في المعلمين المؤهلين، وضعف في البنية التحتية، ولا سيما في المناطق البعيدة ، فالقصور دفع الطلبة لقبول تخصصات لا يرغبون بها "مضطرين" بحجة "هذا الموجود" ذلك لأنها الوحيدة المطروحة في مدارسهم ، وآخرون اجبروا على الانتقال إلى مدارس بعيدة او مدارس خاصة بحثاً عن فرصة تلبي طموحاتهم، فيما وجد بعضهم نفسه أمام خيار الانقطاع المؤقت عن التعليم الرسمي خاصة الاناث منهم .
اما في بعض المدارس الخاصة التي من الصعوبة توفير معلمين لبعض التخصصات التي اختارها الطلبة ، وهو ما دفعها إلى إلزامهم بدراسة هذه المواد عبر المنصات التعليمية ، هذه الخطوة تكشف عن مفارقة لافتة ، ففي الوقت الذي يثار فيه الجدل رسمياً حول جدوى المنصات والحدود المقبولة للاعتماد عليها، يجري استخدامها فعلياً كحل بديل عن التعليم المباشر ، الأمر الذي يضع علامات استفهام حول جاهزية النظام الجديد وقدرته على تحقيق العدالة وتكافؤ الفرص لجميع الطلبة.
ان هذا الانفصال التدريجي بين الطالب والمدرسة الرسمية يشكل مؤشراً خطيراً لا يمكن تجاهله، إذ يهدد بانخفاض الانتماء للمؤسسة التعليمية العامة، ويكرس فجوة اجتماعية واضحة بين من يستطيع تحمل تكاليف التعليم الخاص ومن لا يستطيع، ما يزيد من تفاوت الفرص ويعمق الانقسام بين الطلاب في المجتمع ، لذلك فان الحل الواقعي لا يكمن في التمسك بهذا الكم الكبير من الحقول، بل في تقليصها إلى مجموعة أساسية يمكن لكل مدرسة تقديمها بفعالية، بحيث تصبح الخيارات أمام الطالب عملية وقابلة للتطبيق، وليس مجرد أسماء مكتوبة على الورق دون أثر ملموس .
كما وان هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها متعلقة بمادة "الرياضيات" ، فهذا المبحث ليس مجرد مادة دراسية عادية ، بل تمثل أساس العلوم جميعها، ومقياساً عالمياً معتمداً في القبول الجامعي داخل الأردن وخارجه ، لذلك فإن الغائها او جعلها اختيارية في بعض التخصصات العلمية يشكل مخاطرة جسيمة على مستقبل الطالب، اذ ان نظام القبول الجامعي الحالي لا يقيم الطالب على مسار تخصصه فقط ، بل على معدله التراكمي ، حيث ان اي ضعف في محتوى "الرياضيات" سينعكس مباشرة على معدلات الطلاب، ويقلص فرصهم في الحصول على المقاعد الجامعية التي يطمحون إليها، محولاً مادة اساسية إلى نقطة ضعف تهدد المستقبل الأكاديمي للجيل بأكمله.
لقد كان من الضرورة بمكان وعندما اخذنا بمبدأ تطوير الثانوية العامة تقسيم مرحلة الثانوية العامة على عامين بدلاً من عام واحد ، وهو تخفيف الضغط النفسي عن الطلاب وأسرهم ، لكننا وجدنا اننا لم نحقق الهدف المعلن من ذلك ، بل على العكس، فقد ضاعف التوتر والقلق، ومدد فترة الضغط إلى عامين كاملين، مع المزيد من الأعباء المالية الإضافية والتي تتوزع على هذه الفترة ، ذلك ان هذا الترتيب الجديد لم يمنح الطلاب فسحة من الطمأنينة، بل جعلهم يعيشون تحت ضغط مستمر من الامتحانات والتحصيل، وبذلك فقد فقدت مرحلة "التوجيهي" معناها التقليدي كعام حاسم واحد .
ويمكن القول إن مفهوم "التوجيهي" قد تم "تحويره"، فحين تقسم المواد بين فصول سنتين، يصبح من الصعب التمييز بين هذه المرحلة وما سبقها ، ولو تولت الجامعات مسؤولية اختبارات قبول معيارية خاصة بها، لكان من الممكن تقبل هذا النظام ، لكن طالما أن المعدل التراكمي للتوجيهي يظل المدخل الأساسي للجامعات، فإن الضغط النفسي والقلق والتكاليف لن تتراجع، بل ستتضاعف مقارنة بالسابق وكما سبق واشرت وهذا يجعل الحاجة لمراجعة هذه الآلية أكثر إلحاحاً، إذ اصبح اثرها السلبي ملموساً على الطلاب والأسر على حد سواء.
اننا ومع كل ما سبق واشرنا له ، ومع ذلك، فان كل تلك التحديات ومهما بدت معقدة، يمكن أن تتحول إلى فرصة لإعادة بناء النظام على أسس أكثر واقعية وفعالية ، اذ من المهم ان "البداية" تكون بالاعتراف بالمشكلة والاستماع إلى الميدان بعين صادقة ، لكن ان اقول ان "الاصل" هو ان تكون الثانوية العامة مسار عام واحد للجميع ، مع ضرورة ان ينتهي تدريس مواد "الثقافة المشتركة" بصف (١١) ويخصص صف (١٢) لمواد التخصص فقط ، على ان يختار الطالب (٣-٤) مواد بما يناسب ميوله وقدراته والتخصص المطلوب في الجامعة .
كما ويمكن وضع استراتيجية ذكية تقوم على تقليص المسارات إلى مسارين ضروريين (STEM وHumanities) ، وتوفير الكوادر التعليمية المؤهلة عبر حوافز وتدريب متخصص ، مع ضمان أن تبقى مادة "الرياضيات" جزءاً لا يتجزأ من المسار العلمي للصف الحادي عشر مع إلزامية المتقدم منها للتخصصات العلمية "ضرورة عاجلة" ، كما يمكن الاستفادة من التكنولوجيا بشكل مدروس، من خلال منصات تعليمية مرنة تعزز التعليم حيث يصعب التدريس التقليدي ، دون أن تحل محل حضور الطالب ، بل لتكون مكمّلة ترفع من فرص النجاح.
اضافة إلى ذلك، يجب ان يبدأ التوجيه المهني المبكر، ليعرف الطالب بذاته وقدراته، ويربط اختياراته التعليمية بمستقبله الجامعي والمهني ، كما هو معمول به في تجارب ناجحة مثل التجربة الألمانية التي اطلعت عليها اثناء اكتسابي لدورات متقدمة حول التعليم في "المانيا" ، اضافة الى الاطلاع على بعض التجارب العرببة كالتجربة الإماراتية والسعودية ، اذ ان "قرارات" بحجم اختيار الحقل أو التخصص يجب أن لا تترك للعشوائية أو لضغط اجتماعي مؤقت، بل ينبغي أن تكون نتيجة وعي وتجربة مستندة إلى بيانات ومعرفة.
واخيرا ، وان اطلت ، ذلك لان الموضوع يحتاج الى التوضيح قدر المستطاع ، لكن دعوني اختم باقول : إن النظام التعليمي ليس مجرد مناهج وحقول ، بل هو عقد اجتماعي بين المدرسة والطالب والمجتمع ، وإذا لم يكن هذا العقد مبنياً على الواقعية والشفافية والعدالة، فسيفقد الطلاب الثقة في النظام بأكمله.
وهنا تكمن مسؤولية صانعي القرار ، في تحويل النظام الجديد من "عبء مربك" إلى أداة تمكين حقيقية، ومن متاهة معقدة إلى طريق واضح ، ومن أزمة إلى فرصة لإعادة تنظيم التعليم على أسس صلبة تحقق العدالة وتفتح آفاق المستقبل.
والله ولي التوفيق