السرطان من المسافة صفر: شهادة من قلب الحكاية
النائب نور أبو غوش
17-09-2025 12:53 AM
يُقال "الرفيق قبل الطريق"، كنايةً عن أهمية مَن يرافقكَ في سفركَ وحلِّكَ وترحالك، وقد كان رفيق هذه السفرة الطويلة كتابٌ مُلهِمٌ مُدهِش، فعلى مدى سفرٍ تجاوز ال٢٦ ساعةً ذهاباً ومثلهنَّ إياباً، كان كتاب "السرطان من المسافة صفر: عندما تخونُ الخلايا" للدكتور عاصم منصور حاضراً فوق سُحُب البلاد كلها.. كتابٌ أبكاني منذُ صفحاته العشر الأوائل وأنا التي لطالما استهزأتُ بمَن تحرِّك الكتب والأفلام دموعهم ومشاعرهم.. لكنه كتابٌ يحاكيكَ أنتَ من المسافةِ صفر، قبل أن تُحاكي معهُ هذا المرض وخلاياه.
بيني وبين مادةِ الأحياء عداءٌ لم أعرف طوال سنين الدراسة سبيلاً لحله وإصلاحه، فلم ينفع الترهيب ولا الترغيب ولا القراءة ولا الاستماع ولا غير ذلك أن يوجِدَ بيني وبين هذه المادةِ أيَّ خيوط ودٍّ أو انسجام، وحمداً لله أنني كنتُ أستطيعُ حذف هذه المادة من معدّل الثانوية العامة، فقد تجاوزتُ علامة النجاح فيها بفارق نقطةٍ واحدة، وعلّه لولا عشقي للفيزياء والرياضيات والكيمياء لتركتُ الحقل العلميّ هروباً منها، أقول هذا لأنَّه ورغم ذلك كله فقد استطاع هذا الكتاب بصفحاته التي تجاوزت الـ٦٠٠ أن يُبقيني كلِّي حاضرةً معه، رغم كل ما فيه من علم أحياءٍ وشرح تفاصيل ما يحدث للخلايا المتحوِّلَةِ إليه، وأنواعه وتاريخ وعلاجاته وغير ذلك، إلّا أنها لغةُ الدكتور عاصم، وصدقُ كلماته، وانتقاء عباراته، وحضور أمثلته، ولمساته الوطنية، تحوِّل النص من علميٍّ صِرْف إلى ما هو أبعدُ مِن ذلك، فلا تعرف بعدها أتصنِّفُ الكتاب بالعلميِّ أم القصصيّ، أم تجربة شخصية، أم تدرجه تحت بند السير الغيرية، أم تأريخٌ لمؤسسة أردنيةٍ وطنية نفتخر بها في مركز الحسين للسرطان، أم شهادةُ طبيب، وعلّه ذلك كله.
يطرح الكتاب مجموعة من المحاور المتداخلة، مُستعرِضاً تاريخ مرض السرطان منذ العصور القديمة حتى العصر الحديث، متتبعاً تطور الطرق العلاجية التقليدية والحديثة، مسلطاً الضوء على إسهامات الحضارات المختلفة في فهم هذا المرض عبر التاريخ، مروراً بعلماء الحضارة الإسلامية، ويروي كيف لتجربة هذا المرض أن تمسَّ حياة المريض وعائلته ومجتمعه، وكيف أن تلقّي تشخيص السرطان يجعل الإنسان يدرك أن حياته انقلبت رأساً على عقب ولن تعود كما كانت، ولكأنَّه "يولد من جديد" حاملاً كمَّ مشاعر مختلطة ما بين الخوف من الموت، والقلق من رحلة العلاج الطويلة، والشعور بالعزلة، مقابل قصص الصمود والإيمان والأمل، ويقدم د. عاصم شرحاً وافياً عن البَعد الاجتماعي وأهمية الوعي والذي يشعرك بها أنك أنت القارئ تحمل معه مهمةً عليكَ ألّا تتخلى عنها، ويطرح ما بين الصفحات عدداً من التوصيات ذات الأهمية، ليوصلك إلى المحطة الأخيرة في الكتاب وهي مستقبل المرض.. كيف لهذا المرض أن يكون مستقبلاً، علاجاً ووقايةً وتشخصياً، ليُحمِّلنا الكتاب مسؤوليتنا الأخلاقية والمجتمعية والدينية والرسمية بأن نولِي هذا المرض حقه من نشر وعيٍ، ومتابعة وصول للمناطق النائية، وحضورٍ ذي أولوية في الزكاة والصدقات والتبرعات، ووقاية تستحق أن نبحث فيها سبلاً قانونياً لتضييق السبل أمام كل ما يؤدِّي لهذا المرض مما أثبتته التقارير العلمية والأبحاث.
هنيئاً لنا في الأردن حقاً بمؤسسة ومركز الحسين للسرطان، قصة النجاح الأردنية التي تأسست منذ عام ١٩٩٧ لتكون مؤسسةً غير ربحية وطنية ريادية، برؤيةٍ من جلالة الملك الحسين -طيّب الله ثراه- والذي قدّم بنفسه -رحمه الله- تجربته الحيّة في صناعة الوعي، وعلنا جيل يذكر حملة التبرع الكبيرة التي كانت آنذاك لافتتاح ما سُمِّي وما زلنا نقول انه "مستشفى الأمل"، ليكون من أفضل المراكز المتخصصة في المنطقة، مُتجاوزاً التخصصية والخبرة والكفاءة ليقدِّم إلى جانب ذلك دوراً كبيراً في التوعية والوقاية والتدريب.. وهنيئًا لنا برعاية الأميرة غيداء طلال، التي حملت رسالة المؤسسة بصدق وإصرار، فكانت الوجه الإنساني لصوت المرضى وحكاياتهم. بعدما عايشت في بيتها حكاية المرض مع زوجها الأمير طلال فلمست الحاجة للتطوير والاستمرارية.. وهنيئاً لنا بمثل الدكتور عاصم منصور، الذي تلمس كمَّ الثقافة والمحصول الأدبي والفكري والمعرفي بينَ ثنايا كلماته، لتعلم أن مَن يصوغ الأحرف ليس مجرد طبيب أو مدير لمؤسسة الحسين للسرطان استحقّ الثقة فحسب، بل هو شاهد حيّ على أعمق حكايات الألم والأمل، يحملُ أكثر من خمسةٍ وعشرين عاماً قضاها بين المرضى، يرى في وجوههم انكسار الخوف ووميض الرجاء، فوجدَ طبيب الأشعة الماهر نفسه يقرأ ما لا تقرأهُ أجهزة التصوير الإشعاعيّ، وهي نفوس الناس ودواخلهم، فأراد لزاماً أن يذّكرهم ويذكّرنا أن السرطان ليس نهاية، بل بداية لاكتشاف معنى جديد للوجود، وأن الصمود أمام المرض أحياناً يكون أعظم من الشفاء نفسه.
العام الماضي كان مليئاً بزيارات لهذا المرض لمن أعرف، فقدتُ فيه مريضين بأصعب تجربة عايشتها أبداً، وعلَّ هذا ما جعل الكتاب منذ بدايته موجِعَاً يذكرني كيف تخون الخلايا جسداً بكامل صحته وبأوجِ فرحته وبأعلى همته وبأفضل سنوات عمره وبأكثر أيامه ربما فرحاً وحباً فنفقدهم بأسرع ما يكون، لكنه وبعد أشهر زار أحب الناس فكان سريعاً عاجلاً محفوفاً بلطف الله وعنايته وسرعة التدخّل وكشف المرض المبكِّر، وهذا ما جعل الكتاب حاملاً لكثير من الأمل فتماما كما شرح بأن الكشف لو تأخر شهراً أو أقل أو أكثر لكان الأمر مختلفاً تماماً، وفي ذات العام احتجتُ لزيارات متكررةٍ لهذا المركز فلامستُ ما جاء في الكتاب وأكثر مِن حجم التطور والدقة والكفاءة، ولمستُ عبر الزيارات والجلسات في وجوه الناس وحكاياهم في غرف الانتظار والممرات كثيراً مما يُروى، فكيف بمن عاشرهم هذه السنوات كلها، ولا أجد أمام ذلك كله خيراً مما قاله الدكتور عاصم في كتابه: "قصة السرطان ليست فقط قصة مرض، بل قصة حياة بكل هشاشتها وجمالها وإمكانياتها اللامحدودة".