يتخذ المشهد الدولي اليوم ملامحه من عصر التحالفات والاستقطاب؛ قوى كبرى تترابط في شبكات أمنية واقتصادية، وتعيد تشكيل خرائط النفوذ بما يتجاوز الجغرافيا التقليدية. وبينما تتحرك القوى العالمية في اتجاه بناء التكتلات وتعزيز موازين الردع، يعيش العرب والمسلمون حالة من التشرذم والافتراق، تفرّقت المجاديف في بحر هائج، وضاعت البوصلة بين صراع المصالح الضيقة وميراث الانقسام المزمن. وفي هذا السياق المأزوم، يعلو صوت جلالة الملك عبدالله الثاني برؤية تنادي بتأسيس منظومات ردع عربية وإسلامية، متينة وقائمة على المصالح المشتركة، تحفظ الاستقرار وتصون الأمن وتعيد للعرب والمسلمين بعضاً من مكانتهم المفقودة.
فالحكمة التي تنبّه إليها الملك تكمن في أن العالم لم يعد يرحم الكيانات الصغيرة المنعزلة، وأن التهديدات الجديدة، من إرهاب عابر للحدود، إلى قوى إقليمية طامعة، إلى تحولات المناخ والطاقة والغذاء، تفرض معادلات قاسية لا يمكن مواجهتها بقدرات قطرية منفردة. ولذا يصبح خيار التحالفات الدفاعية العربية والإسلامية ضرورة وجودية، لا مجرد ترفٍ سياسي أو أمنيات عاطفية.
لقد جرّب العرب عبر العقود صيغاً متعددة للتنسيق المشترك، من الجامعة العربية إلى معاهدات الدفاع المشترك، غير أن معظمها بقي حبراً على ورق، أو مجرّد شعارات تستحضر في المناسبات. والسبب أن هذه الصيغ لم تبنَ على قاعدة صلبة من المصالح المشتركة، وكانت تتعثر عند أول اختبار واقعي. أما دعوة الملك اليوم فهي مختلفة: تأسيس منظومات ردع تقوم على وعي جديد بالمصلحة، بحيث يدرك كل طرف أن مشاركته استثمار في أمنه الذاتي، وأن قوته الفردية تزداد بمقدار ما يسهم في قوة المجموع.
إنّ التحالفات التي يطرحها الملك لا تشكل نسخاً عن الناتو أو أي منظومة غربية، فهي إطار يستجيب لخصوصية العالم العربي والإسلامي. فالمطلوب هو بناء شبكة ردع تتوزع فيها الأدوار وفق الإمكانات: دول تمتلك القدرات البشرية، وأخرى تملك السلاح والتقنية، وثالثة تملك التمويل والدعم اللوجستي. وبهذا التوزيع الذكي للأدوار يمكن أن تقوم قوة ردع عربية–إسلامية متكاملة، قادرة على أن تقول كلمتها في وجه الأطماع والتدخلات.
إن المقصود بالردع هنا البعد العسكري، والردع سياسي والاقتصادي والمعرفي. فكما أن الجيوش تردع العدوان، فإن الاقتصاد المتماسك يردع الهيمنة، والتكامل في الطاقة والغذاء والمياه يردع الابتزاز الخارجي، والتنسيق في الإعلام والمعرفة يردع محاولات التشويه والتهميش. إن قوة الردع الحقيقية هي تلك التي تجعل خصومك يفكرون ألف مرة قبل أن يغامروا باستهدافك، لأنها تجعل كلفة الاعتداء أكبر من أي مكسب محتمل.
لقد أثبتت التجارب أن التشتت العربي والإسلامي هو أعظم هدية قُدّمت لمشاريع الآخرين. فمن فلسطين إلى العراق وسوريا واليمن، ومن ليبيا إلى السودان، تكررت المأساة نفسها: غياب منظومة ردع مشتركة تجعل المعتدي يحسب حساباً قبل أن يشعل فتنة أو يغزو أرضاً. وكلما ازداد هذا الغياب، تمددت القوى الإقليمية والدولية في فراغنا، حتى صرنا مسرحاً لتصفية الحسابات وميداناً للمساومات.
إن دعوة الملك عبدالله الثاني تضع العرب والمسلمين أمام مسؤولية تاريخية: إما أن يستفيقوا إلى وعي جديد بالمرحلة، فيبادروا إلى بناء تحالفات واقعية تنطلق من المصالح قبل العواطف، وإما أن يظلوا أسرى التشرذم والتبعية، يدفعون ثمن الفراغ ويتحملون كلفة الاستقطاب. فالحكمة هنا أن نصنع موازين جديدة تخصنا نحن.
ومن يظن أن هذا الطرح خيال بعيد المنال، يكفيه أن يتأمل كيف استطاعت قوى أصغر بكثير أن تخلق لنفسها موقعاً عبر التحالفات الذكية. فالدول الصغيرة حين تعجز عن فرض نفسها منفردة، فإنها حين تدخل في منظومات مشتركة تكتسب وزناً مضاعفاً. فما بالنا نحن، بأعدادنا ومواردنا وموقعنا الجغرافي الفريد، إذا اجتمعنا على ميثاق مصالح واضحة ومؤسسات ردع فاعلة؟
إن بناء قوة ردع عربية وإسلامية يتطلب أولاً الاعتراف بأن الأمن القومي العربي أصبح قضية متشابكة تتجاوز الحدود. ويتطلب ثانياً شجاعة سياسية لتقديم المصلحة العليا على الخلافات الجزئية. ويتطلب ثالثاً إرادة شعبية تضغط على القيادات للسير في هذا الاتجاه. فحتى يمكن للتحالفات أن تنجح يجب أن تُبنى على قناعة القواعد بأن المصير مشترك، وأن ما يهدد جارك اليوم سيطرق بابك غداً.
قد تكون دعوة جلالة الملك عبدالله الثاني بمثابة سباحة عكس التيار في بحرٍ يغلب عليه التشظي والاستقطاب، لكن هذا هو عين الحكمة: أن تواجه التيار قبل أن يغرق السفينة كلها. وإذا كانت المجاديف قد تكسرت في محاولات سابقة، فإن الأمل أن تعود اليوم أكثر صلابة، لأن البحر لم يعد يحتمل مزيداً من الغرق، ولأن التاريخ لا يرحم من يتأخر عن صناعة مستقبله.
إن صوت الملك الهاشمي، وريث نهضة العرب وثورتهم يمثل منهجاً استراتيجياً يدعو العرب والمسلمين إلى استعادة بعضاً من فاعليتهم المفقودة. فهل يستمعون؟ وهل يجدون في هذه الدعوة بوصلة تنقذهم من التشتت وتعيد لهم دورهم في موازين العالم؟ إن الإجابة عن هذا السؤال هي التي ستحدد ما إذا كان القادم استمراراً للمأساة، أم بداية لنهضة جديدة تُبنى على تحالفات صلبة ورؤية مشتركة.