يوم أمس وفي ملتقى فريق الشيخ محمد بن راشد الذي جمع أكثر من ألف قيادي في دبي، أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الجزء الأول من كتابه الجديد «علمتني الحياة»، ليضيف إلى المكتبة العربية مرجعًا معرفيًا وفكريًا يُضيء للأجيال الحالية والقادمة.

قرأت جميع كتب سموه من رؤيتي إلى قصتي، وها أنا اليوم أقرأ هذا الكتاب الجديد فأجد نفسي أمام نصّ بسيط في عباراته، عميق في معانيه، مليئًا بالدروس التي تتجاوز حدود الزمان والمكان. إنه ليس مجرد سيرة، بل خريطة فكرية لتجربة إنسانية وقيادية تمتد لستة عقود.

يركّز سموه منذ البداية على البعد الإنساني للتجربة، لا على المنجزات المادية، فيقول" :تعلمت أنني لست كاملاً، بل إنسان يتعلم ويتطور، وينمو ويكبر، ويحب ويكره، ويقوى ويضعف".

هذا الاعتراف العفوي يضع القارئ أمام درس جوهري: أن الحياة ليست بعدد السنوات، بل بعدد الأيام التي نعيشها بكامل معناها. وفي فصل "هل جربت أن تعيش؟" يذكّرنا سموه بأن من لم يذق طعم المغامرة أو السباق أو تحدّي ذاته لم يعش الحياة حقًا. هنا تتجلّى فلسفة القيادة التي ترى في التجربة والمجازفة مساحةً للتعلّم الدائم.

يمتد أثر الكتاب إلى جوهر العمل الحكومي. ففي فصل "الرؤية والحركة" يضع سموه قاعدة ذهبية: الحركة تصنع الإنجاز. الإنجاز لا يتحقق بالانتظار ولا بالدراسات وحدها، بل بالفعل المستمر.

وفي "الحرية الاقتصادية" يؤكد أن ازدهار الأمم يبدأ من ثقة الحكومات بشعوبها، فالحرية الاقتصادية أعظم من موارد الدولة لأنها الوقود الحقيقي لطاقات البشر.

أما "القاتل الصامت – الفساد" فيراه سموه آفة إذا تأقلم معها المجتمع تحوّلت إلى ثقافة تشلّ التنمية وتشعل الاحتجاجات. هذه الفصول تعكس تجربة حكم راسخة تؤمن بأن النجاح يحتاج وضوح رؤية وصرامة نزاهة وجرأة قرار.

لم يغفل الكتاب عن القيم التي تصنع وجدان المجتمع. ففي فصل "البخل والبخلاء" يربط سموه الكرم بسعادة الروح، مؤكّدًا أن العطاء لا يقاس بالغنى المادي.

وفي "انسجام" يرسم صورة لدولة الإمارات بوصفها وطنًا للسلام والتسامح، مجسّدًا مقولة غاندي" :سلام المجتمع انعكاس لسلام أفراده".

أما في فصل "لماذا القادم أجمل؟" فيبث روح التفاؤل ويعلّمنا أن الأمل قوة، وأن الإيمان بالمعجزات هو بداية تحققها. هذه القيم ليست شعارات، بل منهج عمل جعل من الإمارات بيتًا عالميًا يحتضن التنوع.

حين أغلقت صفحات الكتاب، شعرت أن العنوان يتجاوز كونه شهادة شخصية إلى رسالة جماعية. علمتني الحياة… وعلمنا أن القيادة تبدأ من الداخل؛ من الإنسان الذي يصقل ذاته كل يوم.

إنها دعوة لكل قارئ، لكل مسؤول، ولكل شاب طموح، أن يجعل من حياته مختبرًا للتعلّم، وأن يترجم القيم التي قرأناها، الحركة، النزاهة، الكرم، التفاؤل، إلى سلوك يومي في أسرته ومؤسسته ومجتمعه.

وكما كتب سموه في رسالته إلى أحفاده: "كونوا كالمطر أينما وقع نفع"، فالمطلوب أن نكون جميعًا مطرًا من خير وفكر وأمل.

إن كتاب "علمتني الحياة" ليس مجرّد سيرة ذاتية لقائد استثنائي، بل مدرسة فكرية تؤكد أن الأفكار أبقى من المشروعات، وأن القيم أعظم من الإنجازات.

من رؤيتي إلى قصتي وصولًا إلى هذا الإصدار الجديد، يمضي محمد بن راشد في تثبيت مفهوم أن القيادة فعلٌ معرفي وأخلاقي قبل أن تكون موقعًا أو منصبًا.

وإذا كانت الحياة قد علّمته الكثير، فإن هذا الكتاب علّمنا نحن – كأفراد وكمجتمع – كيف نصنع المستقبل بحكمة ونزرع الأمل في كل جيل قادم.

الأفكار تدوم… القيم تُخلّد… والحياة مدرسةٌ لا تنتهي.


* صالح سليم الحموري
مستشار التدريب والتطوير
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية