facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الوحدة الوطنية السورية … والفدرالية


المهندس محمد النجداوي
25-09-2025 11:44 AM

سوريا لم تكن يومًا مجرّد مساحة جغرافية على خرائط الأمم، بل كانت روحًا حضارية نابضة امتدت جذورها في عمق التاريخ الإنساني، ومن رحمها خرجت الأفكار الكبرى، ومنها انطلقت إمبراطوريات غيّرت وجه العالم، دمشق، أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، لم تُخلّد صدفة في ذاكرة الزمن، بل لأنها شكّلت قلبًا نابضًا بالثقافات، وملتقى للأديان، وحاضرة سياسية قادت المشرق كله تحت راية الدولة الأموية، هذه المكانة جعلت سوريا دائمًا مركز ثقل حضاري وسياسي في المشرق، وأحد ركائز التوازن العربي.

لكن هذا العمق التاريخي لم يمنع سوريا من أن تتحوّل في حاضرنا إلى ساحة جراح مفتوحة وصراعات متشابكة، فالحرب لم تدمّر العمران والبنية التحتية فحسب، بل طالت الإنسان والنسيج الاجتماعي ذاته، تهجير جماعي، نزوح ملايين، تفكك اجتماعي، وطائفية متصاعدة أضعفت إمكانات المصالحة، وتحوّلت الفسيفساء السورية من مصدر ثراء إلى خرائط متصدعة تتنازعها الولاءات والانقسامات، بينما الخارج يمسك بخيوط الداخل، في مشهد يتجاذبه الإقليمي والدولي أكثر مما يملكه السوريون من قرار مستقل.
يضاف إلى ذلك التحدّي الاقتصادي غير المسبوق، انهيار العملة، تفشي البطالة، وغياب أبسط مقومات العيش الكريم، وهو ما جعل الأزمة مركبة بين سياسي واجتماعي واقتصادي، بحيث لا يمكن لأي حل سياسي أن ينجح إذا تجاهل قسوة الواقع المعيشي.

في خضم هذه التصدعات، برزت الفدرالية كأحد الطروحات السياسية للخروج من الأزمة، وفي أصلها، الفدرالية عقد اجتماعي يقوم على التوافق لا على الإكراه، وعلى وحدة التنوع لا على انقسام الولاءات، وقد نجحت في تجارب راسخة مثل ألمانيا وسويسرا، حيث مكّنت التعددية من أن تتحول إلى مصدر استقرار عبر تقاسم مدروس للسلطات.

لكن نجاح الفدرالية في هذه النماذج لم يكن وليد فراغ، بل ثمرة نضج سياسي ومؤسسات راسخة وثقة متبادلة بين المكوّنات، أما في سوريا اليوم، فالفدرالية المطروحة تنقلب إلى نقيضها، فهي ليست تعبيرًا عن إرادة شعبية حرة، بل عن واقع مفروض بقوة السلاح وتوازنات الخارج، ما يُسمى بالفدرالية في السياق السوري ليس آلية لتعزيز الوحدة، بل وصفة لتكريس مناطق النفوذ غير المرسومة على الخرائط، وإضفاء شرعية على نتائج الحرب بدل تجاوزها.

هنا تكمن الخطورة، تُطرح الفدرالية كحل قبل استكمال شروط الحل، وتقدّم كجسر للاستقرار بينما هي في حقيقتها هاوية جديدة، فلا دستور جامع يضمن المساواة والعدالة، ولا مؤسسات قوية قادرة على إدارة التنوع، ولا مصالحة وطنية تعيد الثقة المفقودة، ما هنالك هو أقاليم ممزقة تمسك بخيوطها قوى تبحث عن مصالحها لا عن مصلحة السوريين.

تجاوز هذا المأزق لا يكون برفض الفدرالية فقط، بل ببناء بدائل واقعية قادرة على التأسيس لحل مستدام، أول هذه البدائل هو إصلاح اللامركزية الإدارية، بحيث تُمنح المحافظات صلاحيات أوسع لإدارة شؤونها اليومية ضمن إطار دولة موحّدة، فيستعيد المواطن ثقته بالمؤسسات. والخطوة الثانية هي صياغة عقد اجتماعي جديد يستند إلى المواطنة والعدالة والكرامة، يضمن لكل مكوّن سوري مكانه في البيت الكبير بلا خوف أو تهميش. أما الخطوة الثالثة، فهي الشروع في عدالة انتقالية حقيقية تُعيد الاعتبار للضحايا وتمنع تكرار المأساة.

عندها فقط، يمكن للسوريين أن يناقشوا مستقبلهم بهدوء، وأن يختاروا – بحرية – الشكل الأمثل لدولتهم، سواء كان مركزيًا أو فدراليًا، لكن على أساس إرادة داخلية لا إملاءات خارجية. فالخطر على سوريا اليوم ليس في الفدرالية كمفهوم، بل في استعجالها قبل أن تتهيأ شروطها الطبيعية.

إن سوريا اليوم تقف على مفترق مصيري، إما أن تتحول إلى مسرح دائم لصراعات الآخرين، أو أن تستعيد زمام مصيرها عبر وحدة وطنية واعية تتجاوز الجراح. الوحدة ليست شعارًا، بل فعل يومي يبدأ من المصالحة بين أبناء الوطن جميعًا – من السنة والعلويين والأكراد والدروز والمسيحيين وغيرهم – تحت سقف أمّ واحدة اسمها سوريا. وبهذا المعنى، يمكن للفدرالية في مستقبل ناضج أن تكون خيارًا لتعزيز الوحدة، لكنها اليوم مجرّد إغراء زائف. الخيار الحقيقي أمام السوريين هو البقاء عبر الإصلاح والمصالحة، أو الفناء عبر التشظي والتناحر.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :