صرخة مدوية .. الفن الأردني على حافة الانطفاء
فيصل تايه
25-09-2025 01:49 PM
تابعنا ما دار في الاجتماع "التاريخي" الذي عقد في احدى قاعات مجلس النواب ، اذ لم يكن حديث الفنانين مجرد احتجاج عابر ، بل صرخة مدوية للعدالة الفنية والهوية الوطنية ، فما تحدث عنه نقيب الفنانين محمد يوسف العبادي ، والفنان ساري الأسعد ، والفنان زهير النوباني وغيرهم ، ابرز حجم الفجوة الصادمة في واقع العمل الفني الأردني ، خاصة ما يحصل عليه الفنانون الأردنيون وما يصرف على محتوى عربي او اجنبي او لمن يطلق عليهم "مشاهير" ، حيث دار الحديث بكل شفافيه وجرأه وصراحة عن اكثر من مئة فنان أردني لم يحصلوا خلال عامين على اكثر من الف دينار ، بينما و"للمفارقة" يحصل بعض "المؤثرين" على ما يقارب نصف مليون دينار وفق ما كشف عنه "ساري الأسعد" ، وبينما ايضاً تصرف لمرة واحدة لمحتوى اجنبي مئات الآلاف ، اذ ان هذه الفجوة ليست مجرد ارقام ، بل شهادة على ظلم ممنهج يقوض الإبداع الوطني ويضعف مكانة الدراما الأردنية على الساحة العربية .
الفن الأردني اليوم يصرخ بصوت عاجز ، اذ يعيش واحدة من اشد أوقاته قسوة منذ عقود ، فالفنان الأردني ، الذي كان يوماً مرآة الحضارة وصوت الهوية الوطنية، اصبح ضحية الاقصاء المؤسسي والتهميش ، محروماً من ابسط حقوقه المالية والمعنوية ، بينما تستنزف ملايين الدنانير على مسلسلات وأفلام ومحتويات أجنبية مدبلجة، بعيدة كل البعد عن قيمنا وهويتنا، فتغرق الخزينة وتهمش المواهب المحلية وتقوض الإبداع الوطني ، حيث ان هذا الواقع ليس مجرد سوء إدارة، بل إهانة متعمدة للفن الأردني واهدار للمال العام ، ويحد من مكانة الأردن في المشهد الفني العربي.
شاهدنا جميعاً الألم والحسرة والإحباط على وجوه من حضروا اللقاء من "عتاولة" الفن الأردني ، فقد وصف الفنان زهير النوباني الواقع بأنه "مهين ومخجل"، مؤكداً ان الدراما الأردنية اليوم وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ عقود طويلة ، اذ ان المسلسلات الوطنية تاريخياً، كانت نافذة حضارية تحمل رسائل تثقيفية وتنويرية، وتساهم في صياغة الوعي الجمعي ، كما سبق وأشرت في مقال سابق ، فكان الأردنيون ينتظرون بشغف الأعمال الوطنية، كما وان المسلسلات الأردنية كانت تعرض على اكثر من خمس محطات عربية في آن واحد ، وتحقق تأثيراً حضارياً يفخر به كل أردني ، لكن رحيل الرواد وغياب الدعم الرسمي ترك الجمهور في "نوستالجيا" حادة ، يحن الى زمن كان الفن الأردني فيه رمز فخر واعتزاز ، بينما الإنتاج الحالي، ومع غياب التخطيط والدعم، اصبح ضعيفاً تقنياً وفنياً ، خاصة المسلسلات النمطية الهزلية في كثير من الأحيان ، تهمل الإبداع ، ولا تعكس قيم المجتمع ولا تاريخ الوطن .
دعونا نتحدث بكل صراحة ، اذ ان الأموال التي كان من المفترض ان تعيد الروح للفن الأردني ، وتوجه لدعم الإنتاج المحلي، وتمكين الفنان الأردني وانتاج اعمال تعكس تاريخ الأردن وقضاياه وهويته ، باتت تهدر على محتوى يفتقد العمق والهوية ، فكان من الممكن توجيه هذه الأموال لإنتاج أعمال درامية ضخمة مشتركة تجلب ارباحاً كبيرة، بينما المسؤولون يتذرعون من المسؤولية بحجة نقص الميزانيات والإيرادات ، مما يثير التساؤل حول مصير الرسوم المفروضة على المواطنين ضمن فاتورة الكهرباء تحت بند "رسم التلفزيون"، والتي كان من المفترض أن تساهم في دعم الإنتاج المحلي وتمويل التلفزيون ، فلماذا تستنزف هذه الموارد على أعمال غريبة عن قيمنا ، بينما فنانوننا يئنون من الفقر والعجز؟
يجب ان نعي تماماً ان الدراما الأردنية ليست ترفاً ، بل ركيزة أساسية في تشكيل الهوية الوطنية وأداة لبناء الوعي الاجتماعي وحصن ضد الانحدار الثقافي ، وان إعادة الألق لها تتطلب قراراً سياسياً حقيقياً وجريئاً ، ودعماً مالياً مستداماً ، وتوجيه الميزانيات لإنعاش الإنتاج المحلي ، بدلاً من شراء اعمال جاهزة من الخارج ، لذلك انا اقول ان الدعم الحكومي للفنانين يجب أن يشمل تمويل الأعمال الفنية ، وإنشاء صناديق دعم للفنانين، وتوفير التأمين الصحي ووبناء نظام تقاعد ، وإعطاء الإنتاج المحلي الأولوية على الشاشات الأردنية والعربية، ليعود الإنتاج الأردني منافساً ومؤثراً كما كان في الماضي.
اليوم ، ترفع صرخة عاجلة إلى دولة رئيس الوزراء الدكتور جعفر حسان ، الرجل المتفهم والقادر على الوقوف على هذه المشكلة ، وحكومته الرشيدة خاصة وزير الإعلام الدكتور محمد المومني عراب الاعلام الوطني ، والمسؤول عن ملف مؤسسة الإذاعة والتلفزيون ، وإلى وزير الثقافة الأستاذ مصطفى الرواشدة الرجل الوطني المثقف ، فهم من يملكون الفهم الكامل لحجم الأزمة ، والقادرون على تشكيل لجنة عليا لدراسة الواقع الفني ، والكشف عن اسباب الانحدار ، وتقديم الحلول العملية لإنقاذ الدراما الوطنية بما فيها الانفتاح على القطاع الخاص ، وإعادة الفنان الأردني إلى مكانته الطبيعية ، فعليهم الآن ، وقبل اي وقت مضى ، اتخاذ خطوات حاسمة تعيد للدراما الوطنية هيبتها، وتضع الأردن مرة اخرى على خريطة الفن العربي بما يعكس حضارة وقيمه الوطنية.
الفنان الأردني اليوم ليس ضحية مالية فحسب ، بل ضحية تراكم الإهمال الإداري والثقافي ، فصرخة الفنانين ليست مجرد احتجاج أو صوت شكوى ، بل نداء وطني عاجل لإنقاذ إرث ثقافي كامل وإعادة الدراما الوطنية إلى مكانتها الطبيعية ، لذلك دعوني اقول مرة اخرى ان استمرار التهميش والانحدار في الإنتاج المحلي يؤدي إلى ضياع الهوية، ويجعل الأردن على حافة ضياع حضاري كامل ، ويضعف ثقافة المجتمع ويجعل الجمهور ينتظر محتوى "جاهز" بعيداً عن هويته ، فإعادة الألق للفن الأردني ليست رفاهية، بل واجب حضاري ووطني، لاستعادة ثقة الجمهور وضمان استمرار رسالة الفن الأردني في التأثير والتثقيف والارتقاء بالمجتمع.
لقد حان الوقت لتحويل صرخة الفنانين الى مشروع وطني شامل يعيد الدولة إلى واجبها في بناء مستقبل ثقافي مستدام ، فالفنان الأردني يستحق الاعتراف والدعم والعيش بكرامة ، لأن إرثه الفني هو ارث الوطن كله، ودوره الحضاري لا يقل اهمية عن اي قطاع آخر ، فكل يوم يمر دون إجراءات عاجلة هو خسارة ثقافية وهدر للهوية الوطنية .
وأخيراً ، لن نسمح لأجيال المستقبل أن تنشأ على محتوى هابط أو أجنبي جاهز ، بينما إرثنا الفني يتلاشى ، فالأردن بحاجة ماسة للعودة إلى دراما قوية وفن أصيل يعكس حضارة وقيم المجتمع الأردني ، ويعيد للأمة العربية أعمالاً متميزة تنافس وتحاكي الواقع، بدل التسلية المستوردة التي تفقدنا هويتنا وتسرق فخرنا الثقافي.
والله ولي التوفيق