خطاب العزلة .. حين يفضح المنبر صاحبه
فيصل تايه
27-09-2025 10:38 AM
لم يكن خطاب "بنيامين نتنياهو" من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة مجرد كلمة ديبلوماسية اعتيادية، فالقاعة شبه فارغة، واغلب الوفود انسحبت قبل كلمته، ومظاهرات صاخبة في شوارع نيويورك ، والصورة تشي بعزلة دبلوماسية حقيقية تفوق اي دفاع ارتجالي عن سياسة قائمة ، تلك رسالة سياسية واضحة ، بان خطاب "النتن ياهو" لم يعد يجد آذاناً صاغية ، فالمشهد لم يكن تفصيلاً بروتوكولياً ، لكنه في الحقيقة اعاد انتاج خطاب داخلي حزبي لا يليق بمنبر دولي ، فقد جمع بين البصرية الدعائية والبلاغة الحزبية اليمينية ، فقد تضمنت فقراته استدعاء للتاريخ ، وتكرار لذرائع الأمن ، وانكار فاضح للوقائع الميدانية في غزة ، بينما الرأي العام الدولي بدأ ينظر بعين الريبة إلى روايته التي لطالما استندت إلى التخويف والتضليل .
من الملاحظ ان الخطاب لم يقدم اية رؤية جديدة او خارطة طريق سياسية قابلة للتطبيق ، بل محاولة للاعتماد على ما يمكن ان تعرضه ال (كـ QR) والتي وضع رمزها على ياقة معطفه وكذلك اعضاء وفده المرافق ، طالباً من الحضور قراءة ذلك الرمز عبر هواتفهم الذكية ، في محاولات بائسة لعرض لقطات مرئية تهدف لزرع وقع عاطفي لدى المشاهد ، وفي حيلة بصرية لم تكن بديلاً عن خطة سياسية ، وإنما ستار يغطي فراغاً سياسياً يتزايد وضوحه لدى المجتمع الدولي ، وإلى تحويله لبيان إنكار منقوض بالأرقام والشهادات ، ومحاولاً استخدم المنصة لتأدية "خطاب حاد" ضد ما سماها دول "رضخت للتهديدات" واعترضت على قرارات دولية بالاعتراف بفلسطين ، متهماً إياها بتشجيع الإرهاب ، في اتهامات لم تدعم بأدلة توازي ثقل كل تلك المزاعم .
الجزء الأخطر جاء حين كرر "نتنياهو" أنه "يجب أن ينجز العمل" في غزة ، وان بلاده لن تتوقف عن هجماتها حتى تفكيك ما وصفه "بقاعدة الإرهاب" ، كما عاد وادعى ان الاتهامات الموجهة لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب أو سياسات إبادة "مبالغ فيها" و"كاذبة" ، محاولاً تطويع منصة الأمم المتحدة وجعلها منصة دفاع عن قصف وحشي يؤدي إلى مآس إنسانية ، فالأدلة الميدانية والإنسانية تقف في المقابل مع حقوق الفلسطينيين ، في تجاهل سافر وإنكار للتقارير الأممية والمنظمات الحقوقية التي توثق مشاهد ميدانية من دمار واسع ، وفي متابعة حالات إنسانية كارثية والشواهد كثيرة تشمل نقصاً حاداً في الغذاء والدواء والمساعدات ، وآلاف القتلى ، والدمار الواسع ، والنزوح الجماعي ، والإغلاق القصري للمنافذ الإنسانية جعلت المجتمع الدولي ، بما في ذلك دول كانت "تاريخياً" تتبنى تحفظات ، يعلن مواقف صارمة وتقدم مبادرات اعتراف أو خطوات دبلوماسية جديدة ، لذلك وفي هذا السياق ، لم يعد الكلام عن «التهديد الأمني» وحده كافياً لشرعنة مأساة إنسانية أو لتجويف الحق الفلسطيني في تقرير المصير ، فالحقوق الفلسطينية مثبتة في قرارات دولية وتستدعي موقفاً يفوق الشعارات ، تؤدي الى إنهاء الاحتلال، والسماح بعمل إنساني عاجل ، وإطلاق عملية سياسية حقيقية نحو دولة فلسطينية على حدود ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية.
لقد حاول نتنياهو في "استعراضه" أن يقدم نفسه باعتباره "قائداً فذاً منقذاً " يخوض معركة كبرى ضد "الإرهاب"، فقد رفض بشكل قاطع حل الدولتين ، متوعداً بأن إسرائيل ستبقى ممسكة بالتحكم الأمني في غزة حتى بعد انتهاء الحرب ، ومعلناً نية حكومته إنشاء "سلطة مدنية" في القطاع ، اذ ان هذا الطرح ليس سوى إعادة انتاج لسياسة الاحتلال بشكل "مغلف" ، فكيف يمكن الحديث عن سلطة مدنية تحت وصاية عسكرية شاملة؟! ، فتلك صيغة جديدة للاحتلال لا اكثر ، تكشف بوضوح عقلية نتنياهو التوسعية التي لا ترى في الفلسطيني سوى موضوعاً للسيطرة والإخضاع .
كما ولم يكتف نتنياهو بهذا فحسب ، بل لجأ إلى ارقام مثيرة للجدل حين زعم ان "٩٠%" من الفلسطينيين في غزة والضفة يؤيدون هجوم السابع من أكتوبر ، فهذا الرقم الذي لم يسند الى اي مصدر موثوق، يكشف كيف يحاول هذا الرجل صناعة رواية مبنية على "الشيطنة الجماعية" للشعب الفلسطيني ، لذلك فان خطابه لم يكن يستهدف "حماس" وحدها ، بل "يجرم" مجتمعاً بأكمله، ويحوله الى "شريك في الإرهاب"، وهو ما يفتح الباب امام تبرير حرب شاملة تستهدف المدنيين ، وتبرئ ساحة الاحتلال من مسؤوليته الأساسية ، لذلك فان هذا النوع من الخطاب ليس مجرد مبالغة سياسية، بل يعتبر تحريضاً مباشراً يتناقض مع القانون الدولي الإنساني، ويعكس منهجية الاحتلال في اخفاء الحقيقة خلف لغة الأرقام المشوهة.
كما ومن الملاحظ ان "نتنياهو" وحين تحدث عن "الإنجازات"، اختار أن يبرز قضية الأسرى الإسرائيليين ، اذ ذكر أن حكومته أعادت "٢٠٧" من الأسرى، وأن "٤٨" ما زالوا محتجزين، منهم "٢٠" على قيد الحياة ، لكن هذه الأرقام ، والتي يصعب التحقق منها بشكل مستقل، جاءت لتغطي على الحقيقة الأعمق ، وهي وجود آلاف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، كثير منهم دون محاكمات عادلة ، ومنهم أطفال ونساء ومرضى ، وان تجاهل نتنياهو هذه الحقيقة يفضح "الانتقائية" التي يعتمدها في روايته، حيث يقدم نفسه كمنقذ لأسرى بلاده بينما يواصل تجاهل المأساة الإنسانية التي يصنعها يومياً بحق الشعب الفلسطيني.
ولم ينس نتنياهو ان يرفع منسوب التصعيد ضد إيران وحلفائها، متحدثاً عن "محور معاد لإسرائيل والولايات المتحدة" ، يضم إيران وحزب الله وحماس والحوثيين ، محاولاً ربط الصراع "الفلسطيني _ الإسرائيلي" بمواجهة اقليمية اوسع ، ليعيد إنتاج صورة إسرائيل كـ"خط دفاع أول عن الحضارة الغربية" ، لكن هذه اللغة لم تعد مقنعة كما كانت في السابق ، ولم تعد صورته كحارس للغرب مستساغة أمام مشاهد الدمار في غزة وجثث الأطفال تحت الركام ، فالعالم يرى اليوم بوضوح أن القضية الجوهرية ليست إيران ولا "المحاور المعادية"، بل هي الاحتلال المستمر وحرمان الفلسطينيين من حقهم في تقرير المصير ، لذلك فان استخدام هذه اللغة لم يعد سوى محاولة للهروب من الحقيقة الأصلية.
بقي ان اقول ان خطاب نتنياهو لم يكن عرضاً للقوة بقدر ما كان اعترافاً ضمنياً بالضعف ، كما وان ما تجاهله في خطابه ، هو ان اسرائيل اليوم تواجه ازمة شرعية عالمية ، فلم يعد كافياً ان يرفع شعار "محاربة الإرهاب" ليبرر استمرار الاحتلال، فالرجل يواجه ملاحقات قضائية، ومظاهرات دولية، وانقساماً داخلياً حاداً ، لا يستطيع أن يفرض روايته كما كان يفعل في الماضي ،فكلما تشبث بخطاب القوة، كلما تعمقت عزلة اسرائيل، فالقضية الفلسطينية "تعود" لتفرض نفسها على جدول الأعمال الدولي بقوة ، وزادت قناعة الرأي العام العالمي بأن الحل الوحيد هو الاعتراف بالحقوق الفلسطينية الكاملة ، وكل محاولات التضليل والدعاية لن تغير من حقيقة ان شعباً تحت الاحتلال يطالب بحقه المشروع في الحرية والاستقلال.
في النهاية، ما كشفه خطاب نتنياهو أمام الأمم المتحدة هو أن إسرائيل لم تعد قادرة على إخفاء وجهها الحقيقي خلف خطاب القوة ، والعالم بدأ يرى اسرائيل كما هي على "حقيقتها" ، دولة احتلال تمارس سياسات توسعية، وترفض الحلول السلمية، وتصر على انكار الحقوق الفلسطينية ، فهذه الحقيقة، مهما حاول نتنياهو إنكارها، ستظل تطارد إسرائيل في المحافل الدولية، حتى يقر المجتمع الدولي بأن لا سلام ممكناً من دون إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
والله ولي الصابرين