معرض عمان الدولي الرابع والعشرين للكتاب
أ.د سلطان المعاني
28-09-2025 10:51 AM
يُقام معرض عمّان الدولي للكتاب تحت مظلة اتحاد الناشرين الأردنيين ليغدو أكثر من مناسبةٍ سنوية؛ يغدو اختباراً لمناعة المعنى في زمنٍ تتكاثر فيه الشاشات وتتقلّص فيه القدرة على الإصغاء العميق. يحدّد المعرض، بقدر ما يَعرض الكتب، صورة الأردن الثقافية أمام ذاته وأمام العالم: بلدٌ يحوّل القراءة من هوايةٍ فردية إلى ممارسةٍ مدنية، ومن سلعةٍ إلى قيمة، ومن حدثٍ بروتوكولي إلى موسمٍ للأفكار والخيال.
يؤسِّس المعرض لمعنى يتجاوز البيع والشراء. يعيد ترتيب العلاقة بين الكاتب والناشر والقارئ، ويستعيد وظيفة الكتاب كوسيطٍ للمعرفة ورافعةٍ للوعي وذاكرةٍ عامة تحفظ سيرة المجتمع وتقلّباته. يعقد شراكة غير معلنة بين المدرسة والبيت والجامعة، ويقترح على الإعلام أن يعيد اكتشاف لغته حين يتكلّم عن الثقافة بصفته شريكاً. يختبرنا ونحن ندخل بواباته: هل نريد من الثقافة زينةً سريعة أم نطلب منها معياراً للذوق ومسؤوليةً أخلاقية؟
يرسم المعرض هدفاً عملياً لا يختبئ وراء الشعارات: توسيع قاعدة القراءة، وتنشيط صناعة النشر، وتمكين الكُتّاب الشباب، وفتح النوافذ أمام الترجمة ثنائيّة الاتجاه. يربط دور النشر بالمكتبات المدرسية والجامعية، ويخلق حوافز للكتاب الجيد كي يصل إلى القارئ بسعرٍ معقول، فيقاوم بذلك الفجوة بين الرغبة والقدرة. يضيف إلى ذلك كله بعداً دبلوماسياً ثقافياً؛ فيستقبل دور نشر عربية وأجنبية، ويفتح حواراتٍ عابرة للحدود حول قضايا الترجمة وحقوق الملكية الفكرية وسياسات القراءة العامة، فتغدو عمّان في أيامه مدينةً تكلّم العالم بلغة الكتاب.
يرتفع الكتاب الورقي في قلب هذا المشهد. يصمد لأنّه يجمع بين اللمس والقراءة والبصر والذاكرة، ولأنّه يمنح القارئ إيقاعاً خاصاً لا تملكه الشاشة. يتكامل لا يتنافى مع الفضاء الإلكتروني: تُعرّف المنصات الرقمية بالكتاب، وتيسّر الوصول والنقاش، لكنّها لا تعوّض تجربة الحبر والورق، ولا تطفئ حاجة الإنسان إلى النص المصحوب بطقوسه؛ إشارة على هامش، رائحة ورقٍ جديد، أُلفةُ كتابٍ ينتقل بين الأصدقاء. يَسَعُ المعرض كلا العالمين: يتيح توقيعاً حيّاً للمؤلف ويستضيف ندواتٍ للبودكاست وصحافة البيانات والكتب الصوتية، ويطرح سؤال الجودة على المحتوى الرقمي حتى لا يتحوّل إلى ضجيجٍ يُضعف الكتاب ولا يقوّيه.
يشهد التنظيم الحقيقي على احترام الفعل الثقافي. تُؤشِّر دقة المواعيد، ووضوح المسارات، وتوزيع الأجنحة، والمعايير العادلة في الاختيار، إلى وعيٍ بأن الثقافة تُصان في الشكل مثلما تُصان في الجوهر.
يزيد قرار تسمية "شخصية ثقافية للعام" من رمزية المعرض ويمنحه محملاً أخلاقياً. فهو لا يقدّم صورةً للاحتفاء الفردي بقدر ما يعلّم الجمهور مبدأ الاعتراف بالمنجز، ويضع أمام الأجيال قدوةً عملية: جدٌّ في البحث، مثابرة في التأليف، انفتاح على الحوار، وحضورٌ في الشأن العام. يصير الاختيار، حين يُدار بمعايير شفافة، جزءاً من سياسة ثقافية تقوم على المكافأة الرمزية والعقد الاجتماعي مع المبدعين: نُكرِّمك لتزيد مسؤوليتك، لا لتستريح.. وهكذا شعرتُ بمدى مسؤوليتي إزاء اختيار الشخصية الثقافية للعام 2025.
يصبح المعرض، في خلاصته، حدثاً يختبر أهليَّتنا لمجاراة زمنٍ سريع دون أن نخسر ما يجعل الثقافة ثقافة: البطء الضروري للتأمل، والعمق اللازم للفكرة، والإحساس بأن الكتاب آلةُ مستقبلٍ تُدار بالحبر والورق والعقل. يتقدّم الفضاء الإلكتروني مزهوّاً بسرعته، ويتقدّم الكتاب الورقي مرفوع الرأس برسوخه؛ وحين يلتقيان في رواق المعرض، يربح القارئ وتربح المدينة ويكبر الوطن.
هكذا يكتب اتحاد الناشرين الأردنيين، بمعرضه، صفحةً من السردية الوطنية: صفحةٌ تقول إن الثقافة كتاب التنمية، وفهرسُه الحيّ. صفحةٌ تعلّم الأجيال أن تصغي لصوتٍ أعمق من الضجيج، وأن تحمل كتاباً لأنها تنوي أن تبني به شيئاً يبقى. وحين يخرج الزائر من البوابة الأخيرة، ويشدّ الكتاب إلى صدره، يعرف أن المعنى لم يغادر بعد، وأن عمّان ما زالت تصلح لأن تكون مدينةً تُقاس بجودة ما يُقرأ فيها قبل أن تُقاس بضوء واجهاتها.