"غزة" بين حياة "ترجى" ووصاية "تخشى"
فيصل تايه
30-09-2025 09:56 AM
في لحظة فارقة ، عاد "دونالد ترامب" إلى المشهد بمبادرة سلام تضمنت "٢١" بنداً وصفها بأنها "خارطة طريق"، لكن الحقيقة المقلقة ان لا أحد يمكنه التأكد مما إذا كانت خطة سلام حقيقية أم مجرد ورقة يلوح بها ليكسب الوقت ويبيض وجه إسرائيل أمام العالم، فالمبادرة تثير جدلاً واسعاً بين من يراها "باباً" للنجاة و"استراحة" من الدم المتدفق منذ سنين ، وبين من يقرأها كخطة تعيد إنتاج الاحتلال بوجه جديد ، إذ يخشى البعض أن يكون الخلاص ثمنه سيادة مسلوبة ، فما بين وعود إعادة الإعمار ودهاليز السياسة الدولية، تبدو المبادرة كجسر معلق بين حياة "ترجى" ووصاية "تخشى"، لكنها في الواقع أقرب ما تكون إلى قنبلة دخانية كثيفة تحجب الرؤية أكثر مما ترسم الملامح ، فما يسميه ترامب "سلاماً " قد لا يكون أكثر من "هدنة مؤقتة" تشي بحماية إسرائيل من العزلة الدولية، وتمنحها غطاءً جديداً ، وتترك غزة في حضن وصاية دولية ثقيلة ، فالأمر في مجمله يتجاوز مجرد توقيع على اتفاق ، ليكون اختباراً لمدى جدية الأطراف الدولية في التزامها بالحقوق الفلسطينية والسيادة الوطنية، ويطرح تساؤلات أعمق حول استمرارية الاحتلال في صورة "سلطة انتقالية" أو إدارة دولية جزئية.
عند دراسة المبادرة، والتي اعلن عن محاورها مساء امس ، تبدو على الورق كخلاص سريع من جحيم الحرب ، لكنها في العمق تحمل غموضاً كبيراً ، حيث تشمل الخطة وقف إطلاق النار الفوري ، وتبادل الأسرى والجثامين ، وإعادة الإعمار ، ووعوداً بالإنعاش الاقتصادي ، وتشكيل إدارة مؤقتة للقطاع تحت إشراف دولي ، ونزع سلاح حركة حماس ، ونشر قوة أمنية دولية، وترك الباب مفتوحاً أمام إقامة دولة فلسطينية مستقبلية ، وتظهر وعوداً براقة تجذب الرأي العام ، لكنها تخفي خلفها "مخاطر حقيقية" ، فقد تمنح إسرائيل مساحة واسعة للمناورة وغسل اليدين أمام الكاميرات ، بينما يحصل الفلسطينيون على جرعة مؤقتة من "الأوكسجين الإنساني" ، حيث ان التجارب السابقة مع المبادرات الأمريكية المتكررة أثبتت أن التفاصيل غالباً ما تتقلص ، في حين تستفيد إسرائيل من الوقت والمناورة السياسية.
من الواضح أن نتنياهو أبدى تحفظات مباشرة على بنود الخطة في بدايتها ، وحسب ما كشفت عنه "مصادر اعلامية"، لكنه سرعان ما وافق على مضامينها ، بعد اجتماعة بترامب بعد ان اقترح تعديلات تجعل الاتفاق "ينسجم مع ميزان القوة العسكري في غزة"، بما يضمن اليد العليا لإسرائيل في التنفيذ ، وما يبين ان هذه التحفظات تكشف أن النقاش ليس فقط حول السلام ، بل حول من يهيمن على مسار ما بعد الحرب ، حيث ان المبادرة تبدو نافذة لإعادة بناء غزة ، لكنها في الوقت نفسه تدار الكواليس لتضمن إسرائيل أنها تظل المسيطرة على الأرض ، وقد يتحول الاتفاق إلى إدارة تصنعها القوة ، لا العدالة ، فيما اعلن الرئيس الأمريكي أن مفاوضات الخطة دخلت "مراحلها النهائية"، وأن التوصل إلى اتفاق قد يمهد لسلام أوسع في الشرق الأوسط، ما يعطي المبادرة بعداً إقليمياً .
ما زلنا ننتظر انقشاع الدخان الأولي ، ليتضح تنفيذ البنود على الأرض ، بعد ضمان موافقة كافة الأطراف ، فالغموض المتعمد في التفاصيل وخطوط الانسحاب المفتوحة لإسرائيل يعيد إنتاج نمط احتلال مرن دون تكاليف سياسية حقيقية ، وهذا يطرح تساؤلات حول مدى التزام المجتمع الدولي بإنهاء الاحتلال الفعلي وليس مجرد إدارة أزمة مؤقتة.
اليوم ، يجب ان نعي بان الفلسطينيين الذين جربوا وعود الإدارات الأمريكية المتعاقبة يدركون أن "الشيطان يكمن في التفاصيل" ، وان الغموض ليس بريئاً ، بل "مقصود" لمنح إسرائيل مساحة مناورة أوسع ، بحيث يمكن تحويل أي بند إلى أداة ضغط أو ذريعة للانسحاب عند أول مأزق سياسي ، "تماماً" كما حصل مع خطة "كيري" عام "٢٠١٤" وخطط أوسلو القديمة، حيث تراجعت الالتزامات الفعلية لصالح الحفاظ على الوضع الراهن للسيطرة الإسرائيلية.
الداخل الفلسطيني يدخل اليوم أيضا أمام امتحان صعب ، فهل ستقبل "حماس" الخطة كما هي ، أم ستسعى لتعديلها؟ ، إذ ان الجدل الداخلي بين الفلسطينيين لا يقل شراسة عن الجدل الخارجي ، فحين تطرح بنود واضحة على الورق ، يبدأ صراع الكواليس بين من يرى التنازل ضرورة لإنقاذ الدم ومن يعتبره تفريطاً بالكرامة وبقوة المقاومة ، حيث ان هذا التباين يوضح أن المبادرة ليست مجرد لعبة دولية، بل اختبار لقدرة الفلسطينيين على الموازنة بين إنقاذ حياة الناس والحفاظ على السيادة الوطنية.
لكن تبقى المبادرة محاولة لتخفيف المعاناة الإنسانية، لكنها تحمل مخاطر إعادة إنتاج الاحتلال بوجه جديد، خصوصاً مع إدارة غزة بواسطة سلطة انتقالية دولية ، فمن يملك حق فرض الوصاية على أرض دفع أهلها أثماناً باهظة؟ وما هي حدود السيادة الفلسطينية إذا سيطرت هذه الوصاية؟ المخاوف من أن تتحول المبادرة إلى التفاف على الدولة الفلسطينية قائمة بقوة .
وعلى الصعيد العربي والدولي ، يبدو أن المبادرة مغلفة بالحذر والحيرة ، لكنها ضمت بقاء سكان غزة على ارضهم حيث مصر ترفض اية أعباء ديموغرافية وأمنية محتملة ، والأردن متوجس من أي سيناريو يمس توازنه الداخلي ، ودول الخليج تشترط اعترافاً واضحاً بالدولة الفلسطينية ، لكن المبادرة ووفق العديد من المحللين فيها أبعادهاً سياسية أكثر تعقيداً من مجرد إعادة الإعمار أو وقف إطلاق النار.
اليوم ، يجب أن نعي تماماً أن المبادرة، التي يراها البعض خطوة أولى نحو التهدئة، قد تفتح باباً لصراعات أعمق إذا لم ترتبط باعتراف سياسي شامل وملزم بحقوق الشعب الفلسطيني ، فالقبول بها على "عجل" يعني منح إسرائيل فرصة لإعادة "التموضع" وإغلاق ملف غزة دون تنازلات حقيقية، بينما الرفض المستمر يعني استمرار الدم والدمار واستنزاف المنطقة إلى ما لا نهاية.
اليوم ، الناس في غزة يريدون ماءً ودواءً وسقفا يحمي أطفالهم، لكنهم يعلمون أن الخبز المشروط بالتنازل عن الكرامة قد يتحول إلى "سم بطيء" ، والمجتمع الدولي يريد وقف النزيف، لكنه لم يقرر بعد إن كان يريد سلاماً عادلاً أم هدنة تعيد ترتيب الأوراق لصالح القوة القائمة ، ام ان اللحظة اختبار لقدرة الفلسطينيين والعرب على رفض تحويل غزة إلى تجربة دولية مؤقتة، فلا خطة ستنجح إذا كانت الكرامة هي الثمن ، ولا حل مستدام ممكن دون سيادة فلسطينية حقيقية وحقوق معلنة وملزمة.
وأخيرًا، تضع هذه المبادرة المنطقة كلها أمام مرآة الحقيقة ، فهل نحن بصدد حل يعالج الجذور ، أم مجرد مسكن مؤقت يريح الأعصاب ويؤجل الانفجار القادم؟ الجواب لن يكتب في بنود ترامب وحدها، بل في مدى استعداد الفلسطينيين والعرب والعالم للتصدي لأي محاولة لتحويل غزة إلى تجربة دولية مؤقتة تدار وفق مصالح القوى الكبرى على حساب حقوق الشعب الفلسطيني.
والله غالب أمره.