يصادف اليوم الخميس اليوم الدولي للاعنف، ذكرى ميلاد غاندي، بوصفه مناسبة أممية لتعميم ثقافة السِّلم والتعليم عليها، بوصفها التزامًا أخلاقيًا يختبر نفسه في لحظات الاختبار العظمى. لكن العالم كلّه ينظر اليوم إلى فلسطين وبؤر الاشتعال ويسأل: ماذا تفعل الأمم المتحدة حقًا؟ وفق النص المؤسِّس لهذا اليوم، الغاية هي “نشر رسالة اللاعنف عبر التعليم والتوعية” وبناء ثقافة تسند السِّلم. غير أن الرسالة تصطدم بحقائق القوة على الأرض، وببيروقراطيا القرار الدولي، وبفيتو يعيد تدوير الكارثة. ومع ذلك، يبقى هذا اليوم إطارًا معياريًا يُحاكم به سلوك الدول، ويذكِّر بأن العالم تعاقد، نظريًا على الأقل، على نبذ العنف السياسي كوسيلة لإدارة الخلاف.
في الملف الفلسطيني، تحرَّك مجلس الأمن على مراحل متعثّرة: أصدر في 22 كانون الأول/ديسمبر 2023 القرار 2720 لتمكين المساعدات وحماية المدنيين في غزة، ثم القرار 2728 في 25 آذار/مارس 2024 مطالبًا بوقف فوري لإطلاق النار خلال رمضان، قبل أن يعتمد القرار 2735 في 10 حزيران/يونيو 2024 مرحّبًا بمقترح هدنة ويؤكد رفض أي تغييرات ديموغرافية أو إقليمية في القطاع. هذه نصوص واضحة في لغتها، لكنها واجهت اختبار التنفيذ حيث تتفوق وقائع القوة والسلاح على حرفية القرارات، وتتقدم اعتبارات التحالفات على أولوية القانون الدولي. ومع كل قرار، كان السؤال نفسه يتردد في الشارع العربي: ما قيمة قرار لا يوقف القصف ولا يفتح الممرات الإنسانية على نحو كافٍ؟ الجواب المرّ أن مجلس الأمن ساحة توازن مصالح؛ ومع ذلك، فإن تراكم القرارات يصنع سجلًا ملزمًا سياسيًا وأخلاقيًا وقانونيًا، يوفِّر معيارًا للمحاسبة اللاحقة ويضيِّق هامش الإنكار.
خارج مجلس الأمن، مضت الجمعية العامة في 10 أيار/مايو 2024 خطوة رمزية–سياسية بدعم أهلية دولة فلسطين لعضوية الأمم المتحدة والدعوة لإعادة نظر مجلس الأمن؛ وهي خطوة لا تمنح العضوية بمفردها، لكنها تعزِّز الشرعية الدولية لحق تقرير المصير وتكشف من يقف في وجهه صراحة. هذه القرارات غير الملزِمة لا توقف حربًا، لكنها ترفع كلفة الاستمرار فيها رمزيًا، وتوفّر أرضية قانونية وأخلاقية للضغط المدني والحقوقي والإعلامي.
تكشف تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية على الأرض عن وضع كارثي؛ من نزوح جماعي متكرر، وصول مساعدات متقطع، وتدهور شامل في البنية الصحية والغذائية، مع تحديثات أسبوعية تفصّل الفجوة بين الالتزامات الدولية وقدرة الشاحنات على العبور. لا تزال غزة عنوانًا لفشل الحماية الجماعية، حيث تصبح الإجراءات الإنسانية إطفاءً متأخرًا لنيران مشتعلة. وحتى حين تنجح قوافل في الدخول، تتكاثر عرقلة الوصول وانعدام الأمان، فتتفتت المساعدات قبل أن تلامس حاجات الناس. إن سردية الأرقام هنا ليست تقنية فحسب؛ إنها سجل أخلاقي يُعرّي العالم أمام نفسه.
في المسار القضائي، أصدرَت محكمة العدل الدولية أوامرَ بتدابير مؤقتة في قضية “جنوب أفريقيا ضد إسرائيل” تُلزم باتخاذ خطوات لمنع الأذى الجسيم وحماية المدنيين والسماح بالمساعدات. قد يقول قائل إن مثل هذه الأوامر لا توقف الطائرات، لكنه يتناسى أن هذه الوثائق تضع سلوك الأطراف تحت مجهر قانوني عالمي، وتحوِّل الأسئلة الأخلاقية إلى التزامات قابلة للمساءلة، وتمنح المدافعين عن الحق أدواتٍ معيارية أمام العواصم والمحاكم والرأي العام.
هل الأمم المتحدة عاجزة إذن؟ الحقيقة أكبر تعقيداً من ثنائية القدرة/العجز. فالأمم المتحدة منظومة من منابر وأذرع: مجلس أمن تُقيده هندسة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وجمعية عامة تصوغ الإجماع الأخلاقي، ووكالات إنسانية تفعل ما تستطيع ضمن قيود التمويل والوصول، ومنظومة عدالة دولية ترسم خطوطًا حمراء ولو تأخّر تنفيذها. بيد أن المنظومة نفسها تعكس لا تسبق إرادة الدول، فتتقدم حيث تتوافر الإرادة، وتتراجع حيث يشتد نزاع المصالح. لذا فإن مساءلة الأمم المتحدة واجبة، لكنها لا تُغني عن مساءلة الدول التي تشلّ عملها أو توقف تمويل أذرعها الإنسانية حين يشتد الخطب.
يبقى السؤال الجارح: ما جدوى الكتابة أمام آلة عنف لا يكترث بالجمل؟ إنّ الكتابة هنا فعل مقاومة مدنية، ثلاثي الوظيفة: أولًا، توثّق وتسمّي الأشياء بأسمائها فتمنع التطبيع مع الاستثناء الدائم؛ وثانيًا، تحافظ على الذاكرة من أن تُقصف مرتين: مرة بالقذيفة ومرة بالصمت؛ وثالثًا، تُحوِّل الألم الخاص إلى معرفة عامة، تفتح ثغرة في جدار اللامبالاة وتُراكم ضغطًا أخلاقيًا يسبق عادةً التحول السياسي.
لقد أثبت التاريخ القريب أن اللغة تغيّر موازين الإدراك، وأن تراكم النصوص الجادّة، تقارير حقوقية، افتتاحيات رصينة، دراسات قانونية، يصنع ببطءٍ ما عجزت عنه بيانٌ واحد: يحرّك رأيًا عامًا، يبدّل كلفة القرار لدى السياسي، ويمنح الضحايا حلفاء في ساحات بعيدة.
ليس مطلوبًا من الكاتب أن يوقف صاروخًا، وإنما أن يوقف تزييفًا؛ ليس بوسعه أن يمرر قرارًا، لكنه يستطيع أن يفضح تعطيله، وأن يذكّر بأن العالم وقّع مرارًا على التزامات واضحة: حماية المدنيين، إغاثة المحاصرين، منع التهجير القسري، ورفض الهندسة الديموغرافية في الحروب. كل مرة نكتب فيها بنزاهة وصرامة، نضيف حجرًا في جدار الحقيقة، ونمنح المؤسسات الدولية سببًا لتطوير خطابها وأدائها، ونضيّق على الدبلوماسية عديمة الأخلاق مساحتها في الظل. وإن كانت الأمم المتحدة مرآةً لإرادات متنازعة، فالكتابة الحرة مرآة ضميرٍ جمعيّ يذكِّر تلك الإرادات بأن العالم موضع أحياء لهم أسماء وحقوق وحدودٌ للقوة. في اليوم الدولي للاعنف، لا يكفي أن نرفع صورة غاندي، ولكن أن نرفع سقف صدقيتنا: أن نكتب كي لا يُمحى الأثر، وكي لا يُقال يومًا إن الصمت كان لغتنا الأم.