العالم بين الانزلاق وبين التوازن
أ.د سلطان المعاني
05-10-2025 10:22 AM
يتأرجح العالم اليوم بين نداءين متناقضين: نداء الحوار الذي يفتح نوافذ الفهم المشترك، ونداء الصدام الذي يغلق الأبواب على الخوف والأنانية. في لحظةٍ تتقاطع فيها الأزمات البيئية والسياسية والروحية، يبدو الإنسان واقفًا على حافة هاوية، يحدّق في المجهول، تتنازعه رغبة البقاء وهاجس السيطرة. لقد أصبح الحوار شرطًا من شروط الوجود ذاته؛ فالعالم المترابط بتقنية واحدة لا يمكنه أن يعيش بعقلية الجزر المعزولة. إن الوعي الإنساني، بعد قرون من النزاعات والحروب، لم يتعلم بعد كيف يصغي، وكيف يفهم أن الاختلاف لا يعني التناقض، وأن التنوّع يشكل فرصة لإعادة تعريف الذات من خلال الآخر.
الصدام في جوهره نتاج ضعف في الإدراك؛ إنه انغلاق في الكهف الأفلاطوني حين يخاف الإنسان النور الخارج من الفكرة. بينما الحوار فعل شجاعة، يتطلب النزول إلى الجذر الإنساني فينا، حيث يلتقي المعنى بالكرامة، والعقل بالقلب. لقد أثبتت التجارب الكبرى في التاريخ أن الحضارات التي آمنت بالحوار نمت وتقدمت، أما التي حصّنت نفسها بجدران الخوف فقد انهارت تحت ثقل أوهامها. إنَّ الصدام، مهما بدا ضروريًا في لحظة الدفاع عن الذات، يخلّف دائمًا ظلالًا طويلة من الكراهية، بينما الحوار، حتى وإن تأخر ثماره، يزرع في الأرض بذور الثقة والاحترام.
تتبدّى خطورة اللحظة الراهنة في أننا نعيش زمنًا سريع الاشتعال، تُشعل فيه المعلومة الواحدة حربًا رمزية أو اقتصادية أو إعلامية. لقد صار العنف رقمًا وصورة وصوتًا، يقتحم الوعي الجمعي ليعيد تشكيله على صورة الخوف. في هذا السياق، يصبح الحوار عملية مقاومة ضد التفاهة وضد التهييج الجماعي، وسلوكًا ثقافيًا عميقًا يواجه التفكك الداخلي الذي يتسلل إلى ضمير الإنسان. فالحوار هو اعتراف بوجود الآخر، وبحقه في أن يرى العالم من زاوية مختلفة. إنه اختبار حقيقي لقدرة الإنسان على أن يكون كونيًّا دون أن يفقد جذوره.
في المقابل، الصدام يُغري بالعناوين السهلة، لأنه يقدّم الوهم في صورة الحسم، ويمنح الجماعة شعورًا زائفًا بالنقاء الأخلاقي. لكنه حين يهدأ الدخان، يكتشف الناس أن ما احترق كان جسورهم ذاتها. إن التوازن وعيٌ بالمسافة الدقيقة بين الدفاع عن القيم والانزلاق إلى التعصب. فالتاريخ يكتب بالمنتصرين وبالذين عرفوا كيف يحوّلون الخسارة إلى وعي. الحوار إذًا قوة الوعي الذي يرفض الانجرار إلى الفوضى، ويؤمن بأن المعرفة تولد في فضاءات التفكير المشترك.
لقد ورثنا من القرون الماضية إرثًا من الانقسامات: بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب، بين الغني والفقير، بين الأنا والآخر. لكن العالم المعاصر لا يحتمل استمرار هذه القسمة، لأن المشكلات التي تواجه الإنسانية اليوم ـ من التغير المناخي إلى العدالة الرقمية ـ تتجاوز الحدود السياسية والدينية والإثنية. إنّ الإنسان الذي لا يحاور اليوم، إنما يعزل نفسه عن مصير الكوكب بأسره. وإن لم ننجح في تحويل الحوار إلى منظومة تفكير لا إلى مناسبة دبلوماسية، فإننا سنواصل الدوران في الدائرة ذاتها: دائرة الانزلاق الأخلاقي والاحتقان الثقافي.
في جوهر المسألة، نحن أمام سؤال الوعي: هل نحن قادرون على بناء عالمٍ يسمع أكثر مما يتكلم؟ عالمٍ يستبدل منطق الإقصاء بمنطق التشارك؟ لا يكفي أن نُطالب بالسلام إن لم نغيّر طريقة تفكيرنا في الآخر. فالحوار يتحقق بالنيات الطيبة وبالأنظمة التي تحمي حرية الرأي، وبالمؤسسات التي تُعلي من شأن العقل النقدي، وبالتربية التي تُنمّي في الأجيال الجديدة القدرة على الاختلاف دون خصومة.
عندها فقط يمكن للعالم أن يخرج من مرحلة “التعايش المؤقت” إلى “الانسجام الممكن”.
العالم اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يختار لغة الحوار فيعيد التوازن إلى روحه، أو أن يختار طريق الصدام فينزلق إلى فوضى جديدة، لا يُعرَف فيها المنتصر من المهزوم. إننا نعيش في لحظة اختبار حضاري، تتوقف فيها الإنسانية على سؤال بسيط في ظاهره عميق في جوهره: هل ما زال الإنسان يؤمن بالإنسان؟ الجواب على هذا السؤال سيحدّد مصيرنا المشترك، وسيقرر ما إذا كانت الأرض ستبقى وطنًا للجميع أم ساحة صراع لا نهاية له.