الذكاء الاصطناعي: تقنية تحلّ بلا استئذان
إبراهيم غرايبة
05-10-2025 10:24 AM
يحل الذكاء الاصطناعي بلا استئذان في عالم الاقتصاد والأعمال والمجتمات والتعليم والصحة والحياة اليومية، لكن الاستجابة و التفاعل مع التكنولوجيا ليست تلقائية ولا متشابهة. وبالطبع فهذا حال لا يخص الذكاء الاصطناعي دون التكنولوجيات الأخرى، لكن أهمية هذه الحقيقة في هذا السياق أن التحولات الكبرى في التكنولوجيا تنشئ متوالية حتمية من التغيير والتأثير، فالذكاء الاصطناعي مثل المطبعة في القرن الخامس عشر والورق في القرن التاسع والكتابة في الألف الثالثة قبل الميلاد ينشئ ثورة معرفية تغير تغييرا كبيرا في المنظومات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ولو تأملنا في المحطات المذكورة السابقة سوف نلاحظ بسهولة التحولات الكبرى في مسار الإنسانية وحياتها وتنظيمها الاجتماعي والاقتصادي بفعل هذه التقنيات والموارد، وليس عفويا تسمية المراحل الكبرى بأسماء الموارد والتكنولوجيات الرئيسية، مثل العصر الحجري والبرونزي والحديدي، والصيد والرعي والزراعة والصناعة، وليس بعيدا عن هذا المسار تسمية العصر الذي يتشكل اليوم بالمعرفة أو الحوسبة أو الشبكية أو قل ما شئت من تسميات متقاربة متشابهة، تصب كلها في الثورة المعرفية الآخذة بالتشكل والنمو في متوالية هندسية تفوق التوقعات والخيال.
إن أهم ما يجب الالتفات إليه في التحولات والتأثيرات التي تنتجها التكنولوجيا المعرفية أنها تؤثر في الإنسان نفسه، لأنها تحاكي الإنسان ومهاراته المعرفية؛ مثل التفكير والتذكر والتداعيات والبداهة والمنطق والخيال والإبداع، إنها تحاكي الإنسان نفسه، في حين كانت الثورة الصناعية محاكاة لقدرة الإنسان الجسدية في العمل والحركة والزراعة وصناعة الأشياء، هكذا كنا نقول ومازلنا صناعة يدوية وصناعة آلية، مثل النسيج والانتقال من مكان إلى مكان والزراعة والبناء والحصاد، والعمل المنزلي واليومي.
يبدأ الإنسان بالسؤل ليدرك حقائق الأشياء، وهذا مبتدأ المعرفة وتطورها وتفاعلها مع الحياة الأساسية مثل الطعام والبقاء والصحة والمرض ومواجهة المخاطر والتحديات، وهذه هي الفلسفة بما هي إدراك حقائق الأشياء، وما يعجز عن إجابته يجيب عليه بالتجربة والملاحظة الحسية المباشرة والتأمل وتحويل ما تخبر به الحواس والتجارب إلى إدراك ومعرفة أكثر تعقيدا، وهذا هو العلم بما هو فهم الأشياء كما تدركها الحواس، وما يعجز عنه العلم والفلسفة في الإجابة عليه يلجأ الإنسان إلى إجابته بالحدس الميتافيزيقي والروحي، وهذا هو الدين بكل تجلياته ومصادره، سواء كانت البحث في السماء (قد نرى تقلب وجهك في السماء) أو الطبيعة والكون (الله نور السموات والأرض) أو الروح بما هي الذات والتاريخ الإنساني أو الفطرة (فطرة الله التي فطر الناس عليها)
كانت هذه المقدمة ضرورية لنلاحظ ما يدخله الذكاء الاصطناعي في المنطومة المعرفية؛ سواء كانت فطرية تأملية؛ أي الاستدلال على الحقيقة بالذات، أو حدسا منطقيا عقلانيا، أو الاستعانة بالعلم أو الدين.
إن الذكاء الاصطناعي يحاول أن يفعل أو يحاكي الإنسان في البحث عن المعرفة أو الاستدلال عليها. إنه يبحث بسرعة هائلة تفوق سرعة الإنسان أضعافا مضاعفة في المعرفة المتاحة في الشبكة والتي تخص المسألة المراد بحثها، إنه يفكر ويبحث ويحلل ويقارن في المخزون المعرفي المتاح أو الممكن الوصول إليه، لكنه يصل إلى مصادره ضمن خوارزمية تتيح المعرفة بمنطق احتمالي لا يبدو أنه عادل أو وبريء أو يعمل بآلية ومنهجية صارمة ودقيقة كما تفعل السيارة مثلا أو الطائرة أو الثلاجة. الخوارزمية ليست متوقعة ولا واضحة، وليست مستقلة أيضا عن "النخبة التكنولوجية" التي تدير الشبكات المعرفية، هي أيضا لا يمكن وصفها حتى اليوم بأنها منحازة أو عادلة أو منصفة أو ذكية أو غبية أو مستقلة أو تابعة. لكنها برغم ذلك كله مصدرنا جميعا في البحث والعمل والمعرفة؛ يستوي في ذلك وكالة ناسا والبنتاغون والكرملين والجيوش والعصابات والشركات والبنوك والأطفال والتلاميذ والباحثون والعلماء والبائعون والمسوقون والمستهلكون والفقراء والأغنياء والدول والحكومات والجماعات. كل هؤلاء وغيرهم يتساوون في لجوئهم إلى الشبكة والاستعانة بها والمشاركة فيها. إنك تتلقى في موبايلك إشارات وتنبيهات تقدمها الشبكة على قدم المساواة، كأن تخبرك الشبكة في رسالة واحدة أن البنتاغون وناشيونال جيوغرافيك والاستخبارات الأمريكية وحارس العمارة وحفيدتك الصغيرة ومدرسة بير خداد أدرجوا صورا ومنتجات معرفية على حساباتهم في انستغرام.
سأحاول في ما بقي من مساحة أن أشير إلى أمثلة وحالات تغير في وعينا الذاتي والمعرفي ومن ثم تقديرنا للحقيقة والمعنى. إن الإنسان لا يلجأ في كل مرة يحتاج إلى معرفة أو موقف او وعي إلى المبادئ والنظريات الأساسية والمصادر التقليدية في المعرفة والسلوك، لكنه أنشأ منظومة راسخة وتلقائية في التزويد بالمعرفة والسلوك والموقف و التقييم، مثل العادات والتقاليد والقيم والأعراف، أو المؤسسات الكبرى، مثل المدارس والجامعات والمعابد والمؤسسات الإرشادية والتعليمية.
إن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تفكك أو تنافس أو تشارك هذه المنظومات والمؤسسات التي أنشأت الهويات والوعي والانتماء والدليل الإرشادي والسلوكي، مثل الدولة والدين والامة والمجتمع، وفي ذلك فإنها تنشئ أو تشارك في إنشاء هويات جديدة مختلفة أو هجينة في الوعي والانتماء والمشاركة، والأكثر خطورة وأهمية منظومة الثقة، فالإنسان يلجأ إلى الذكاء الاصطناعي في حاجاته وأسئلته النفسية والدينية والصحية والعملية، إضافة الى البحث العلمي والمعرفة النظرية والأكاديمية، وهنا نتساءل ببساطة إلى أين تمضي المؤسسات المركزية الراسخة في تزويد الإنسان بالمعرفة والإرشاد و السلوك، مثل الأسرة والمعلم ورجل الدين والطبيب والمرشد، والمحامي، والكتاب والمناهج التعليمية والتدريبية، ومعها المدارس والمعابد والسلطات.
تمضي إلى الزوال أو التغير المؤسسات والسرديات الكبرى والمركزية التي شكلت الحضارات والمجتمعات والوعي والمشاركة والانتماء ثم منظومة المعنى والثقة والرضا، وما لدينا من توقعات مستقبلية أ وملاحظات عيانية عن التحولات والإحلال والاستبدال لم يكتمل وليس كافيا لنفكر ونعمل، وننشئ عالما جديدا. إنه عالم لا يتشكل تلقائيا، ولا نملك ما يكفي من مدخلات التأثير فيه أو تشكيله، لكننا يجب أن نفكر ونحاول.
الحال أننا نملك بسهولة أن نقدر ونفكر في التحولات والتغيرات، لكننا في حاجة إلى مجهود معرفي كبير لمعرفة المستقبل أو تقديره. وفي الوقت نفسه فإن الأمر ليس ترفا فكريا أو معرفيا أو تسلية نمارسها، لكنه عمليات تفكيك وتركيب للهويات والوعي والعلاقة مع السلطات والدين والثراث الفكري والثقافي.
يمكننا القول استرشادا بالتاريخ إن "الإنسان الجديد" برغم ما يتعرض له من مدخلات ومؤثرات معرفية وإدراكية جديدة لن يكون سلالة جديدة في تاريخ البشرية، لكنه أيضا مختلف اختلافا كبيرا، على نحو يشابه الاختلاف في الأفكار والمعتقدات والقيم والسلوك بين الإنسان قبل "الثورة الصناعية" وبعدها، كل ما تعودنا عليه وتقبلناه من مؤسسات وأفكار وموارد وأعمال لم تكن موجودة قبل الصناعة، تنظيم المدن والنقل والأعمال والمهن والمدارس والجامعات، والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي والقوانين والتشريعات وحقوق الإنسان، والاكتئاب والإدمان والتفكك الأسري، وانحسار الروابط القرابية والدينية لتنشأ بدلا منها روابط الصداقة والعمل (الزمالة المهنية) والجيرة المكانية، والاحزاب السياسية والنقابات والاتحادات والطبقات الاجتماعية والاقتصادية. والعبودية التي نشأت مع الزراعة وانحسرت مع الصناعة.
ما نحن متأكدون منه، أو يمكننا الجزم به؛ أن الإنسان في إدراكه لحقائق الأشياء ومعرفته لما تدركه الحواس والتجارب وفي حدسه المنطقي والروحي للغيب او ما وراء الطبيعة والإدراك يسير في طرق ومناهج وأدوات ومصادر مختلفة عما كان عليه الحال طوال قرون سابقة. هكذا سوف تنشأ (أو بدأتنشأ بالفعل) اتجاهات فلسفة وروحية وعلمية ومنطقية جديدة، وليس الصواب أو الحكمة في التصدي او التحريم أو المنع والحظر لهذه الموحة الجديدة؛ فذلك يشبه التصدي للمنخفض الجوي أو الاعصار أو الزلزال، لن يؤثر في الزلزال أو المنخفض الجوي أن يقول عنه عالم الدين إنه حرام، أو تقول السلطة السياسية إنه محظور ومخالف للقانون.