قانون منع الجرائم بين المشروعية والضرورة
د.اكرم مساعدة
06-10-2025 09:17 AM
تداول قانونيون حادثة اجبار احد المتصرفين لأستاذ جامعي على توقيع تعهد بعدم الكتابة بشان ما .والمفهوم قانونا وواقعا، انه في حال عدم رضوخ الأستاذ للتوقيع، فان مصيره سيكون السجن بقرار من المتصرف، مستندا في ذلك للمادة الثالثة من قانون منع الجرائم رقم 7 لسنة 1954 وتعديلاته.
ثار نقاش كبير حول هذه الواقعة وخاصة بين أوساط المحامين. واقول بداية ان للحاكم الأداري صلاحية توقيف الأشخاص في أحوال حددتها المادة الثالثة من القانون المذكور . واما الواقعة موضوع البحث فهي ليست بالقطع منها ، اذ ان تلك الحالات تتعلق بأشخاص خطرين او ربما يشكلون خطرا على المجتمع .لكن المسألة اكبر من هذه الحدود ،وتتعدى قانونا الى البحث في مدى مشروعية قانون منع الجرائم ،الذي ينجم عن تطبيقه أحيانا تصرفات غير مشروعة كالتي حدثت مع الأستاذ الجامعي ،حيث تتعارض هذه التصرفات مع مبدأ المشروعية وحماية حقوق الافراد وصون حرياتهم التي ضمنها الدستور في المادة السابعة منه ،والتي تعتبر الوجه المشرق لدولة القانون .
للوهلة الأولى فان الباحث في شأن الحريات العامة والحقوق الشخصية، التي من المفروض على دولة القانون ضمانتها ،سيتبادر الى ذهنه ان هذا القانون بعيد عن الضمانات المذكورة، وفيه افتئات على الحريات العامة ،ومصادرة لحقوق الأشخاص، سيّما وان من يطبّق القانون ويعمل به ليست جهة قضائية .وهذا الانطباع الاولي له ما يبرره قطعا، للأسباب التالية :
1- ان الممارسات العمليّة في تطبيق هذا القانون، ومنذ عديد السنوات الماضية ،اتسّمت في أحيان كثيرة بسوء الاستعمال ،ورافقها النزعات الشخصية، وكثيرا ما الغت المحكمة الإدارية ومن قبلها محكمة العدل العليا مثل هذه القرارات .
2- ان هذه الممارسات غير محكومة بحدود، ولا محاطة بضمانات واضحة ،تضمن سلامة التطبيق .اذ أن التعداد الوارد في المادة الثالثة لا ينظر اليه في الغالب ويتم تجاهله عند وجود إرادة التصميم على التوقيف .
3- انه وان كانت قرارات الحاكم الإداري هذه خاضعة للطعن بها امام القضاء الإداري ،لكن الواقع العملي يقضي بان يستغرق هذا الطعن وقتا حتى يقول القضاء كلمته ، وحسبما لامسته وشاهدت، فان الحاكم الإداري يصدر امرا بالافراج عن الموقوف عندما يشعر ان القضاء سيلغي قراره التعسفي، مما يترتب عليه انقضاء الطعن الإداري ويكون الموقوف قد مر بأيام ليست مفرحة .
4-ان من شأن الممارسة الخاطئة لتطبيق القانون ،الاضرار بسمعة المؤسسات والدولة بشكل عام ،علاوة على ما يلحق بالخزينة من خسائر مالية بسبب التعويضات التي يطالب بها المتضررون من هذه التصرفات .
لقد طُعِن بعدم دستورية هذا القانون امام المحكمة الدستورية، من خلال طعن فرعي قُدِّم لمحكمة التمييز، اثناء تصدّيها للنظر بدعوى أقيمت للمطالبة بالتعويض عن الضررين المادي والمعنوي وفوات الكسب، جراء توقيف الحاكم الإداري للمدعية مدة تقارب الثلاث سنوات ونصف. ولعلّ اصدق ما يعبّر عن مدى توافق هذا القانون مع المشروعية الدستورية وملاءمته، ما أوردته المحكمة في قرارها رقم1 لسنة 2023 الصادر بتاريخ 15/1/2023 حيث جاء في حكمها :
"ان رقابة المحكمة الدستورية ،رقابة مشروعيّة لا رقابة ملائمة ولا تمتد الى رقابة السياسة التشريعية "
"وقد سبق ان أصدرت المحكمة الإدارية العليا ومن قبلها محكمة العدل العليا احكاما قضت بإلغاء العديد من قرارات التوقيف غير المشروعة "
بل وذكرت المحكمة "ان الفصل في دستوريّة النصوص القانونية المدعى مخالفتها للدستور، لا يتصل بكيفية تطبيقها عمليا ولا بالصورة التي يفهمها القائمون على تنفيذها، كما ان سوء التطبيق للنصوص القانونية او الخطأ في تفسيرها او تأويلها – بفرض عقوبة -لا يوقعها في نطاق عدم الدستورية اذا كانت صحيحة في ذاتها "
هذا يعني ان النصّ القانوني من الممكن ان لا يكون ملائما ولكنه في الوقت ذاته مشروعا، لانه لا يتعارض مع النص الدستوريِ وان من الممكن ان يُعمل بالنص القانوني على غير مرامي الدستور ولا مقاصد القانون.
وعودا على بدء، فأنني أرى ان قانون منع الجرائم ليس فيه الخير كُلّه، ولكنه ضرورة تشريعية لمعالجة أوضاع مجتمعية تستدعي إجراءات آنية. واما من يدّعي ان هذا القانون كغيره من القوانين ربّما يكون عرضة لسوء تطبيقه ،فهذه حجة واهية، لان هذا القانون يُصنّف على انه قانون جزائي عقابي، ويتفرّد عن غيره من القوانين ذات التطبيق القضائي، وأويد بل كنت جزءا من المحكمة الدستورية عندما قضت برد الطعن بعدم مشروعية القانون الدستورية، الا ان ذلك يعني وجود ضرورة ملحة لتعديل بعض احكامه، والغاء واضافة نصوص أخرى، منعا لاساءة استعمال تطبيقها، وحفظا لمنظومة المشروعية، ومنعا لمصادرة الحقوق والتعدي على الحريات، وتكبيد الدولة تعويضات غير مبررة، وبما ينطبق على الحالة الماثلة، التي دعتني لكتابة هذه الخاطرة ، حفاظا على صورة الدولة القانونية التي تقوم على ثوابت راسيات ،اهمها سيادة القانون، وصون الحقوق والحريات، وتحقيق مآرب واهداف الدستور السامية .