البصائر السلوكية في مواجهة "توأمي الشر"
د. صالح سليم الحموري
07-10-2025 11:10 AM
منذ فجر التاريخ، شكّل الفقر والبطالة توأمين شرّيرين يهددان استقرار الأمم. فهما لا يكتفيان بتقويض الاقتصاد، بل ينسلان خيوطًا خفية إلى نسيج المجتمع، فيضعفان الانتماء، ويزرعان الشك، ويتركان فراغًا تتسلل منه نزعات التطرّف والانغلاق والاستقطاب.
لكن المدهش أن جزءًا كبيرًا من هذا الخطر لا ينبع من غياب الموارد، بل من الأنماط السلوكية التي تتحكم في قرارات الأفراد والجماعات. هنا بالضبط، يبرز دور "البصائر السلوكية "كأداة حديثة في "علم القيادة وصناعة السياسات"، قادرة على تفكيك جذور الفقر والبطالة من داخل العقل الإنساني ذاته.
فالفقر في جوهره ليس فقط عجزًا عن الكسب، بل هو أيضًا نتيجة تراكمية لخيارات يومية غير مثلى: الإنفاق غير المنضبط، ضعف الادخار، التردد في المخاطرة، والانجذاب الفوري للمكافأة القصيرة بدلًا من التخطيط للمستقبل. وكذلك البطالة ليست دومًا غياب وظائف، بل في كثير من الأحيان تعبير عن خوف داخلي من الفشل، أو نقص في الدافع، أو انحيازٍ معرفي يجعل الفرد يفضّل البقاء في منطقة الراحة بدلًا من خوض تحديات العمل والتجديد.
في هذا السياق، يمكن للبصائر السلوكية أن تتحول إلى "درع وقائي ذكي ضد توأمي الشر" فهي لا تهاجم المشكلة من الخارج، بل تعيد تصميم البيئة المحيطة بالإنسان بحيث يصبح السلوك الإيجابي أسهل وأكثر جاذبية.
خذ مثلًا تجربة "الادخار الافتراضي"، حيث يتحول الادخار من “خيار” إلى “إعداد تلقائي” في أنظمة الرواتب الحكومية. لقد أثبتت التجارب العالمية أن هذه الخطوة البسيطة رفعت نسب الادخار بما يفوق 60%.
وفي بيئات الفقر، يمكن للرسائل السلوكية القصيرة — المصاغة بلغة القيم والمسؤولية الوطنية — أن تغيّر قرارات الإنفاق اليومي، وتغرس مفهوم “المال كأمان” بدلًا من “المال كمظهر”.
أما في مواجهة البطالة، فإن رحلة الباحث عن عمل يمكن إعادة تصميمها بالكامل عبر أدوات التفكير السلوكي. فبدل أن يشعر الشاب بالإحباط أو العزلة بعد رفضٍ أول، يمكن أن يتلقى رسالة إيجابية صغيرة تقول:
"خطوتك التالية أقرب إلى وظيفتك من أي وقت مضى."
هذا النوع من التشجيع، وإن بدا رمزيًا، يُعيد توجيه السلوك، ويحوّل الإحباط إلى إصرار.
كما أن حملات التوظيف القائمة على “القدوة الاجتماعية” — حيث يرى الشباب أقرانهم الذين وجدوا فرصًا حقيقية — تخلق ما يُعرف بـ "التأثير الاجتماعي الإيجابي" الذي يحفّز الآخرين على التحرك.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالبصائر السلوكية تمتلك قدرة استثنائية على "دمج البعد الأمني في الفعل الاقتصادي" فحين نُدرّب المجتمعات على التفكير المالي السليم، وعلى اتخاذ قرارات مسؤولة، نحن في الحقيقة نُعزّز الأمن الوطني ذاته.
الفقر يولّد التوتر، والبطالة تفتح الباب أمام الاستقطاب الديني والجيوسياسي، لكن السلوك الواعي يخلق إنسانًا منتميًا، منتجًا، محصّنًا ضد خطاب الكراهية والانقسام.
ولذلك، فإن السياسات الأمنية الحديثة لم تعد تكتفي بالردع، بل تتبنى ما يمكن تسميته بـ “الوقاية السلوكية الذكية”، التي تراقب المؤشرات النفسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، وتتعامل مع الفقر والبطالة بوصفهما إنذارًا مبكرًا لا أزمة لاحقة.
وعلى سبيل المثال، يمكن للمؤسسات الأمنية والاقتصادية في الدولة أن تتعاون في إنشاء منصة تحليل سلوكي ترصد مؤشرات مثل الإنفاق الأسري، أو التسرّب من التعليم، أو طول فترات البطالة، لتحديد النقاط الحرجة للتدخل المبكر.
أما الإعلام والاتصال الحكومي، فلهما دور مركزي في هذا الإطار؛ إذ إن محاربة الفقر والبطالة لا تكتمل دون "خطاب وطني إيجابي يرسّخ ثقافة العمل، والإنتاج، والتمكين الذاتي" فالكلمة قد تكون أحيانًا أقوى من أي دعم مادي، حين تبث الأمل وتغذي الانتماء.
وفي النهاية، يمكن القول إن "البصائر السلوكية لا تعالج الفقر والبطالة من جيوب الناس"، بل من عقولهم وقراراتهم اليومية، إنها تمنح صانع القرار أدوات جديدة تُحوّل المواطن من متلقٍ للمساعدة إلى مساهم في التنمية، ومن عبءٍ اقتصادي إلى طاقة وطنية فاعلة.
وهكذا، يصبح الأمن المجتمعي ليس نتاجًا للحراسة والرقابة فقط، بل ثمرة لسلوك جماعي منضبط، مدعوم بفهم علمي عميق للطبيعة الإنسانية.
إن توأمي الشر لا يُهزمان بالتمويل وحده، بل بالفهم.
والفهم يبدأ حين ندرك أن كل قرارٍ صغير يمكن أن يكون بذرة لنهضةٍ كبرى.
* مستشار التدريب والتطوير - كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية