في كل مرة يتحدث فيها أحدهم عن تطوير العمل الحكومي، يقفز مصطلح «مكافحة البيروقراطية» إلى الواجهة كما لو أن البيروقراطية هي الشرّ المطلق. تتكرر العبارة في المؤتمرات، وتُستخدم في الخطابات، وتتصدر عناوين الإصلاح، خصوصًا على ألسنة السياسيين، لكنها في الحقيقة كثيرًا ما تُوجَّه نحو هدفٍ خاطئ. فالمشكلة ليست في البيروقراطية ذاتها، بل في الطريقة التي تكلّست بها عبر الزمن، كما يشير عالم الإدارة كاس سانستاين من جامعة هارفارد.
البيروقراطية، كما صاغها عالم الاجتماع ماكس فيبر، لم تكن يومًا خصمًا للمجتمعات، بل كانت في الأصل نظامًا دقيقًا لضمان العدالة، وتوحيد الإجراءات، والحد من الفوضى. لقد وُجدت لتحمي المواطن من القرارات المزاجية، ولتجعل الخدمة العامة أكثر إنصافًا ووضوحًا. كانت جزءًا من مرحلةٍ تاريخية احتاجت فيها الدول إلى تنظيم صارم وهيكل واضح لضمان الاستقرار والنزاهة.
لكن المشكلة تبدأ حين تتحول البيروقراطية من أداة تنظّم إلى جهازٍ يعطّل. حين تصبح الورقة أهم من الإنسان، والإجراء أهم من الهدف، والقانون قيدًا بدل أن يكون أداة عدل. هنا تفقد البيروقراطية روحها، وتتحول من حارسٍ للنظام إلى جدار يفصل المواطن عن الخدمة.
ولهذا فإن الدعوة إلى «مكافحة البيروقراطية» ليست سوى رد فعل عاطفي. أما الحل الحقيقي فهو أعمق وأكثر ذكاءً: إعادة تشكيلها.
الحكومات الحديثة لا تعلن الحرب على البيروقراطية، بل تسعى إلى تصفيرها وجعلها خفيفة وذكية وغير مرئية. فالتنظيم يبقى، لكن الروتين يختفي. العدالة تبقى، لكن الطوابير تُمحى. القواعد تبقى، لكن الخدمة تصل في لحظتها. في دولة الإمارات، لم تُرفع شعارات صدامية، بل أُطلقت مبادرات استراتيجية لإزالة التعقيد من جذوره، وإعادة تصميم الرحلات الحكومية لتصبح بسيطة وسريعة وإنسانية.
والنتيجة: حكومة لا يشعر بها المتعامل، لكنها تعمل بكفاءة في الخلفية. وفي ماليزيا أُطلقت مبادرة «الحكومة لها باب واحد فقط» لتبسيط وصول المواطن إلى الخدمات.
إن أفضل أنواع البيروقراطية هي تلك التي لا تُرى. تعمل في صمت، تضمن العدالة، وتفتح الطريق أمام خدمة سلسة لا تستهلك وقت المواطن ولا أعصابه.
البيروقراطية ليست عدوًا، فلا تظلموها.
العدو الحقيقي هو الجمود، والتعقيد غير المبرر، والتمسك بالشكليات على حساب الغايات.
علينا ألا نحارب البيروقراطية… بل نُعيد تدريبها لتكون رشيقة وذكية وإنسانية.
* مستشار التدريب والتطوير/ كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية