"فَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا"
أ.د سلطان المعاني
14-10-2025 09:26 AM
الآية الكريمة نداءٍ للمسالمة، وامتحانٌ للعقل والضمير. هكذا كان الاجتماع في القاهرة يوم أمس، بحضور ترامب ونتنياهو وقادةٍ عرب وأجانب، مشهدًا يتأرجح بين الرجاء والريبة، بين إرادة بناء عالمٍ جديد وتاريخٍ مثقلٍ بالخداع. من الطبيعي أن تُصغي الشعوب إلى نداء السِّلم، لكنها في الوقت نفسه تحمل في ذاكرتها صور الخذلان والوعود التي لم تُثمر سوى رمادٍ جديد فوق أنقاض جديدة قديمة.
نعم، نحن مع السلام، لأن السلام بصيرة. هو أفق الإنسان حين يتجاوز دائرة الدم والثأر، ويرى أن الأوطان لا تُشيَّد على جماجم الأعداء، وإنما على اتفاقٍ ناضجٍ يُعيد للإنسان مكانته. ولكن، كيف نطمئن وقد لدغتنا الثعابين مرات؟ بل مرّاتٍ بعدد النداءات التي وُئدت، والعهود التي نُقضت؟ إننا نعرف أن في السياسة ابتساماتٍ لا تُترجمها النوايا، وأن في لغة الدبلوماسية مساحاتٍ رمادية لا يراها البسطاء، ويدركها من ذاقوا مرارة الخديعة باسم السلام.
من هنا، نمتثل إلى الجنوح إلى السِّلم، ولكن نحترز له. فالسلام الحقّ لا يُصنع في الصور الجماعية ولا في التصفيق المؤقت، وإنما في الضمانات، في الذاكرة، وفيما يُكتب على الورق بحبرٍ لا يتبخّر مع تغيّر الإدارات. إن المصافحة الجميلة لا تُغني إن لم تُصاحبها يقظة العقل، والابتسامة لا تكفي إن لم تسندها دروع الوعي. لذلك نقول: صافح بيد السلام، ولكن أبقِ في اليد الأخرى درع الوقاية.
فالعالم من حولنا حلبة مصالحٍ متشابكة، تبتسم حينًا لتُخفي أنيابها. والفرق بين الطيبة والسذاجة هو هذا القدر من الحذر الذي يجعلنا نحلم دون أن نغفل، ونأمل دون أن نُفرّط. نعم، نتمنى أن تكون القاهرة بداية عهدٍ جديد، تُصافح فيه السياسةُ الأخلاقَ، وأن يكون اللقاء خطوة نحو واقعٍ أقلّ توترًا وأكثر إنسانية. غير أن أمنياتنا لا تعني أننا ننسى التاريخ، فالتاريخ لا يُمحى بالابتسامات، ولا تُغلق دفاتره بتصريحاتٍ صحفية.
السِّلم غاية الأنبياء، لكنّه أيضًا امتحان الأمم: هل تتعلم من جراحها أم تكررها؟ وهل تحفظ لنفسها كرامة الاختيار أم تُسلِّم مفاتيحها لمن يكتب عنها التاريخ؟ نحن أبناء تجربةٍ طويلة من المكر السياسي والخذلان الدولي، لكننا أيضًا أبناء عقلٍ عربيٍّ يتقن قراءة ما بين السطور. لذلك نُرحِّب بالسِّلم، لأننا نُؤمن أن الأمل فعلُ قوةٍ لا فعلُ ضعف.
فلنمنح السلام فرصته، ولكن بعينٍ مفتوحة. لأن اليد التي تُصافح، إن لم تحمل درعًا، قد تُلدغ مرّةً أخرى، ولأن الأمم التي لا تتعلّم من ماضيها، لا تستحق أن تصنع مستقبلها.