facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




هشيم الوعي


د. محمد القضاة
19-10-2025 08:29 AM

غياب الحوار يحيل العقل إلى هشيم يسهل إثارته بالغضب والعنف. والجامعة حارسة الوعي والفكر والمعرفة تصون الوعي بكل الوسائل حتى لا يتحول إلى هشيم ورماد.

وعليّ أن اذكّر القارئ الحصيف بلقاء جلالة الملك عبدالله الثاني برؤساء الجامعات في قصر الحسينية بتاريخ 14/12/2016، حين عبّر جلالته يومذاك بوضوح عن رؤيته العميقة تجاه بناء الوعي في الجامعات الأردنية ودورها في بناء الإنسان والمجتمع، مشددًا على أن العنف الجامعي خط أحمر لا يمكن القبول به أو التهاون في التعامل معه. وأكد حينذاك أن سيادة القانون فوق الجميع، سواء أكانوا طلبة أم عاملين في الجامعات، وأن من يتجاوز القانون سيحاسب وفق أحكامه دون استثناء.

وما الذي أفضى إلى العودة إلى هذا العنف، هل يرتبط بما يجري حولنا؟ ولماذا تزداد موجات العنف في الشوارع والمدارس والجامعات حتى غدت مشهدًا مؤلما في مجتمعنا ؟ وفي معظم دول العالم نسمع بين حين وأخر عن شجار هنا، أو اعتداء هناك، وكأن العالم يسير نحو هشيم وتوتر لا ينتهي. وتتكاثر الأسئلة في الأذهان: من المسؤول، هل هي احداث المنطقة بما تخلّفه من اضطراب؟ أم الاقتصاد بما يزرعه من فقر وبطالة وضيق؟ أم الأسرة التي تراجع دورها التربويّ حتى غدت غريبة عن أبنائها؟ أم هو الفكر الذي انحرف عن معناه الإنساني، فصار يرى في القوة طريقًا للحضور، وفي العنف وسيلةً للهيبة؟

وتبدو ثقافة العنف اليوم وكأنها قدر يسري في الناس، تتسرّب من البيت الصغير إلى الشارع المزدحم، ومنه إلى المدرسة فالجامعة، حتى شملت زاويا كثيرة من حياتنا الاجتماعية. يبدأ العنف بكلمةٍ قاسية أو نظرةٍ متحدّية، ثمّ ما تلبث أن تمتدّ اليد، أو يُلقى الحجر، أو تُراق الدماء. وبين كل ذلك تختنق ثقافة الحوار، التي هي أوّل ضحايا الغضب، وأهمّ ما يجب أن نعيد إليه الحياة.

المدرسة كانت مهد القيم ومنارة التهذيب، بدأت اليوم تفقد ألقها في بعض جوانبها، وأصبحت ساحاتها في أحيان مسرحًا للمشاحنات والتوتر. والجامعة، التي وُجدت لتكون بيت العقل والحكمة، صارت تشهد مظاهر سلوك غريبة على قدسيتها الأكاديمية: خصومات، وتخريب، واعتداءات تُشوّه وجه العلم وتجرح ضمير الوطن.

إنها ليست أزمة انفعالات طارئة، بل أزمة فكر وتربية ووعي، أزمة جيلٍ نشأ في زمنٍ قلّ فيه الإصغاء، وغاب عنه الحوار، وانحسر فيه دور المربيّ والقدوة.

في الأصل، تبدأ الحكاية من البيت. فالأسرة هي الحصن الأول ضد العنف، فإذا تصدّعت جدرانها، خرج منها الأبناء بلا بوصلة ولا ضابط. أسأل الآباء: أين أنتم من أبنائكم؟ أين السؤال عن سلوكهم، عن رفاقهم، عن أوقاتهم، عن دراستهم؟ لماذا هذا الغياب الأبويّ الذي يفسح المجال للفراغ والطيش؟ ولماذا هذا الدلال الذي يفسد أكثر مما يُصلح؟

إن الأبناء الذين لا يُوجَّه لهم السؤال، يضيعون في زحمة الإجابات الخاطئة التي يقدمها الشارع، فيتعلمون من الخارج ما كان ينبغي أن يتعلموه في الداخل. وهكذا ينتقل الغضب من البيت إلى المدرسة، ومن المدرسة إلى الجامعة، حيث يصبح التمرد عادةً، والفوضى أسلوبًا.

أما الطلبة، ففيهم المجتهد المخلص الذي يعرف معنى رسالته، وفيهم من يسيء إلى نفسه وجامعته ووطنه بسلوكٍ يفتقر إلى المسؤولية. وهؤلاء، على قلتهم، يتركون أثرًا سلبيًا كبيرًا يهدد البيئة الجامعية. فلا بدّ من موقف حازم يجمع بين الحزم والتربية، بين القانون والرعاية، بين الردع والإصلاح، لأن الجامعة ليست ميدانًا للصراع، بل بيتًا للعلم وقاعات للحوار.

ولا يقلّ دور الأستاذ الجامعيّ أهميةً في هذا المشهد. فهو ليس ناقلَ معرفةٍ حسب، بل صانع وعيٍ وقيم. إن الطالب يحتاج إلى أستاذٍ يستمع إليه قبل أن يُملي عليه، ويحاوره قبل أن يحكم عليه. يحتاج إلى عقلٍ منفتحٍ يزرع فيه احترام الرأي الآخر، وإلى كلمةٍ صادقة تُعيد إليه ثقته بذاته ووطنه.

إن العنف لا يُواجه بالقوانين وحدها، فالقانون يردع؛ لكنه لا يربّي، ويعاقب لكنه لا يُصلح. الطريق إلى التغيير يبدأ من الوعي وثقافة الحوار، تلك التي تعلّمنا أن نختلف بكرامة، وأن نعبّر من غير أذى، وأن نُنصت قبل أن نحكم. فالحوار هو الدواء الذي يُرمّم ما كسرته يد العنف، ويعيد الثقة بين الناس، ويزرع في النفوس روح الانتماء إلى الوطن والإنسان.ولا خلاص لنا من هذه الدوّامة إلا بإحياء هذه الثقافة في بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا، في الإعلام والشارع والبيت والمؤسسة. لا بدّ من أن نعيد للجامعة حرمتها، وللأسرة دورها، وللكلمة سلطانها. فإذا غاب الحوار، ارتفع صوت العنف، وحين يرتفع صوته لن ينجو أحد من صداه.

ولا ننسى من التذكير من ان الدولة المدنية هي العمود الفقري لوحدة المجتمع واستقراره، وأن القانون فوق كل الانتماءات العشائرية والحزبية والإقليمية، وهو ضرورة ملحة لا تقبل التسويف. فذوبان الانتماءات الفرعية في إطار الدولة المدنية يعزز المصلحة العامة، ويجعل من سيادة القانون سيفًا رادعًا لكل أشكال العنف الجامعي، وضامنًا لبيئة تعليمية آمنة تحفظ حقوق الجميع ‏

إن العنف الجامعي الذي شهدته بعض مؤسساتنا لن يثني الجامعة الأردنية عن التميز والاستمرار في أداء دورها الأكاديمي المتميز، وستبقى منارة للعلم والانتماء والمسؤولية الوطنية. وهذه المجموعة الطلابية الصغيرة التي قامت بهذا الفعل ستُحاسب وفق القانون، لتكون عبرة لكل من تسوّل له نفسه مجرد التفكير بالإساءة إلى سمعة الجامعة والوطن، تأكيدًا على أن هيبة الدولة وسيادة القانون هما الحصن الحقيقي لحماية مؤسساتنا التعليمية ومستقبل شبابنا.اللهم احفظ وطننا من الفتن، وامنح أبناءنا وطلبتنا بصيرةً تطفئ الغضب، وعقلاً يختار الكلمة الصواب، والحب لغة الحوار قبل العنف.

mohamadq2002@yahoo.com





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :