غزة: الاتفاق المعلّق وعودة الحرب بخيوطٍ أكثر تعقيدًا
صالح الشرّاب العبادي
19-10-2025 09:31 PM
تبدو الساعات التي تلت توقيع خطة ترامب وكأنها فصلٌ جديد من حربٍ لم تُغلق صفحاتها بعد، بل عادت لتُكتب بحروفٍ أكثر اشتعالًا ، فبينما كانت واشنطن تسوّق الاتفاق بوصفه “نقطة التحول نحو السلام”، كانت الميدان يعلن العكس تمامًا: صواريخ، وغارات، واتهامات متبادلة، وانكشافٌ كامل لهشاشة ما سُمّي بـ”الضمانات”.
اليوم، تتهم إسرائيل المقاومة بخرق الاتفاق، فيما تتهم المقاومة حركة حماس بالتفرد في القرار، وتتهم واشنطن المقاومة بتهديد الاستقرار وتخرق الاتفاق، لكن الحقيقة الأعمق أن الاتفاق، في جوهره، لم يولد مكتملًا؛ فمعظم بنوده لم تُنفذ: لا المعابر فُتحت، ولا الجرحى عُولجوا، ولا المساعدات الإنسانية وصلت كما وُعد بها. حتى ملف الإعمار، الذي كان من المفترض أن يكون بوابة الأمل، تحوّل إلى ورقة ابتزاز سياسي وأمني في يد تل أبيب.
إسرائيل، من جهتها، تعاملت مع الاتفاق بمنطق “المهلة المؤقتة”، لا بوصفه التزامًا نهائيًا، وهي ترى أن العودة إلى القصف ليس خرقًا بل “تصحيحًا لمسار الردع المهدور ” ، ومع تصاعد أصوات اليمين داخل الكنيست، بات واضحًا أن المجتمع السياسي الإسرائيلي يعيش حالة انقسام حاد بين من يرى ضرورة استكمال الحرب لحسم الوجود المسلح في غزة، وبين من يخشى أن تتحول هذه الحرب إلى استنزاف طويل يهدد الداخل الإسرائيلي نفسه.
تبقى معضلة سلاح المقاومة والأنفاق تحت غزة هي العقدة الأخطر في تنفيذ الاتفاق. فإسرائيل تعتبرها “تهديدًا استراتيجيًا” ينسف أي ضمان أمني، بينما تراها حماس جوهرَ توازن الردع الذي صمد لعامين في وجه آلة الحرب.
الخطة الأميركية تتحدث عن “ضبط السلاح الثقيل” لا نزعه الكامل، وعن “خرائط للأنفاق” تُسلَّم لاحقًا بإشراف دولي، لكن تلك البنود تبدو أقرب إلى الوهم منها إلى التطبيق ، فالسلاح في غزة ليس بندقية، بل عقيدة وجود، والأنفاق ليست مجرد ممرات، بل جزء من معادلة البقاء والمفاجأة التي جعلت الحرب مستحيلة الحسم.
ومن هنا، فإن أي اتفاق لا يعالج هذه المعضلة بواقعية وعدالة، سيظل هشًّا، معرّضًا للانفجار عند أول اختبار ميداني.
الولايات المتحدة، التي حاولت ضبط إيقاع الحرب وفق ما سمّته “القصف المناسب للظروف”، لم تعد قادرة على إخفاء مأزقها: فالاتفاق الذي وُقع في شرم الشيخ تحول إلى عبء استراتيجي، إذ أن تطبيقه يعني اعترافًا ضمنيًا بهزيمة إسرائيل الميدانية، وتعطيله يعني انهيار الهيبة الأمريكية كضامنٍ للسلام.
هكذا نعود إلى الميدان، حيث تتقاطع الخطوط الثلاثة في الخطة الميدانية، كما تُظهرها الخرائط، تكشف عن أربع مراحل انسحاب متدرجة ترسم حدود السيطرة الإسرائيلية بشكلٍ محسوب ، ما بين انسحاب اولي من اجل تأمين الأسرى وتهيئة الظروف لعملية التبادل ، ثم انسحاب اولي ثم مشروط ومناطق عازلة كلها كانت ضرباً من الخداع يمثل اعادة التموضع والتعزيز وتبديل القوات واعطائها فترات اعادة التوازن للبدء بصورة جديدة للحرب بعد أن حصلت على الأسرى وعدد من الجثامين.
لكن في نهاية المطاف، لا أحد يمسك بالخيوط فعلاً. فالمنطقة بأكملها عادت إلى نقطة الصفر، حيث “السلام المعلّق” و”الحرب المستمرة” يعيشان معًا في المشهد ذاته.
إن ما يجري اليوم ليس خرقًا لاتفاق فحسب، بل انهيارٌ لوهْمٍ أُريد له أن يكون انتصارًا دبلوماسيًا، والنتيجة أن غزة، التي لم تنم منذ عامين، تستيقظ اليوم على حربٍ أكثر غموضًا، تتبدل فيها القواعد كما تتبدل التحالفات.
فمن يتحكم في “خط النار” هذه المرة؟
الإجابة كما العادة ستُكتب لا في القاعات ولا المؤتمرات ولا في التصريحات، بل في الميدان.
اليوم، تتجاوز الأزمة حدود غزة. فإسرائيل تُمعن في قضم الضفة الغربية وتفتح نارها في الضفة بشكل مركز مهددة بالتهجير القسري والطوعي، والاستيطان يبتلع ما تبقى من فكرة “حل الدولتين”، ولبنان وسوريا تحت اختبار القصف اليومي، بينما تلوح في الأفق ضربة لإيران حيث تقول إسرائيل بأن الحرب لم تنتهِ بعد.
إنها مرحلة إعادة تشكيل للمنطقة لا تقل خطرًا عن الحروب نفسها، لأن ما يجري ليس وقفًا للنار، بل إعادة ترسيم لخرائط الوعي والسيادة والهوية.