تأثير الذكاء الاصطناعي على المنظومة الدينية
إبراهيم غرايبة
20-10-2025 12:57 PM
"ليس كل ما ينشأ عن المقدس مقدسا. وليس كل ما ينشأ من اليقين يقينا"
أشرت في مقالة سابقة إلى أن تقنية "المعنى" تنشئ المعنى بطبيعة الحال، ولن يكون هذا المعنى بالضرورة هو المعنى الذي كان قائماً قبل استخدام التقنية. من هنا فسوف تكون المنظومة الدينية مفتوحة لسؤال المعنى والجدوى والبقاء والبحث، من رجال الدين ومؤسساته إلى محتواه وتطبيقه، ومن ثم علاقة الأفراد والسلطة والجماعات والمجتمعات بالدين. ويبدو بدهياً أنه يتحول أو يعود شأناً فردياً خالصاً لا علاقة به للسلطة والمجتمعات والجماعات، ذلك أنها وببساطة علاقة تاريخية وليست ضرورية ولا بنيوية؛ نشأت من الحاجة إلى فهم الدين، فقد كان الكهنة والمفتون والعلماء والأئمة والدعاة والواعظون والخلفاء والحكام والقادة الاجتماعيون والسياسيون، يكتسبون مواقعهم وأهميتهم ومواردهم وسلطاتهم من حاجة الفرد إلى الدين وعجزه عن استيعابه وتطبيقه.
لم تكن المؤسسات والجماعات الدينية جزءا من الدين ولا مطلبا دينيا، لكن أنشأتها الحاجة إلى المعرفة وحاجة الفرد إليها، وعجزه عن الحصول عليها، جاءت بكل هذه المتوالية العملاقة الصلبة المتماسكة، ولم تكن سوى ما يشبه تشكل الصخور القوية الراسخة التي تكشلت من تراكم وتفاعل الغبار والجسيمات الصغيرة. ومن ثم، فإن هذا الاستغناء الفردي عن المؤسسات ليس مقتصراً على الدين، فتقنيات المعنى والمحتوى تغير في الحكومات والمدارس والجامعات، وفي الحاجة إلى مهن وأعمال كثيرة في الإدارة والتعليم والرعاية الصحية والصيانة. فالإنسان القادر على أن يعمل لنفسه وبنفسه، أو المتجه إلى ذلك، يعيد تشكيل دور العبادة والوزارات والمؤسسات والوظائف الدينية والاجتماعية. لكنه وبالتأكيد في فرديته هذه سوف ينتج معنى وفهماً وتطبيقا جديدةً للدين، مستمدا من معرفته وحاجاته الذاتية وتوقعاته.
ومن المحتمل بل من المرجح أن يكون المصممين والمعدون للبرمجيات الدينية ينتمنون إلى أديان مختلفة. وربما يكونون لا دينيين. وفي ذلك فإن حريتهم النقدية ستجعل "المُسْتَخْدِم" يعيد بداهة محاولة تمييز المقدس وغير المقدس، والإنساني والديني، وينشئ أيضاً فقهاً وتأويلاً جديدين ومختلفين للمقدس، مستمدين من معرفته الجديدة والمختلفة. ولم يعد صعباً تقدير هذا الفهم للدين في نسخته الناشئة عن الحوسبة والأنسنة.
وفي وجهة الإنسان نحو الفردية فإنه يجد المعنى في ذاته وليس مستمدا من خارجها، سواء كان الخارج هو الجماعة أو المجتمع أو العمل، ومن ثم فإن ما يبحث عنه من الرضا والاطمئنان والأمان سيجده أيضا في ذاته وليس في الجماعة، والحال أن هذا هو أصل الدين، فالإنسان يؤمن وحده ويتحمل وحده مسؤولية اعتقاده وأفعاله ويلاقي الله وحده، وحتى في الممارسات والأعمال الجماعية يظل الإيمان والثواب والعقاب فرديا، ولم تكن الجماعات والمؤسسات الدينية إلا لمساعدة الفرد بما هو فرد على المعرفة بدينه، وليس غير ذلك، هي ليست واسطة بينه وبين الله، وليست أيضا ضرورة دينية إلا بقدر ما يحتاجها الفرد. ويجب أن يظل الأصل قائما وهو أن يكون في مقدرو الفرد أن يؤمن ويتدين وحده، وبغير ذلك فإن رواية المؤسسات والجماعات ورجال الدين تتغير وتنحرف عن أصلها لتكوه دينا جديدا مختلفا عن دين الله. ولا تعود كما أرادها المؤمنون أن تكون مؤسسات وجهات يلجأ إليها المؤمن كما يلجأ إلى أهل الاختصاص مثل الأطباء أو المحامين او الفنيين.
عمليات التنظيم المؤسسي والجماعي للدين حولت المؤمنين إلى اعتماديبن أو عاجزين عن الايمان والعبادة والصلة بالله كما يعجز بعض الناس عن أداء حياتهم وأعمالهم الاساسية من غير مساعدة طبية أو شخصية، أو كما يعجز بعض المدمنين عن أداء وظائفهم الجسمية الأساسية من غير تناول المادة التي يدمنونها.
لقد أظهرت متواليات الذكاء الاصطناعي عمق أزمة المعنى في حياة الناس. فالبرغم من أن الإنسان يفترض أن يستمد المعنى من ذاته. هكذا وجد في هذا العالم، فقد جرى تحويل هذا المعنى ليكون ناشئا من خارج الذات، من الجماعة أو العمل أو الأمة، لكن المعنى يعود اليوم مرة أخرى إلى الذات المتفردة، كما كان الأمر قبل عمليات التنظيم الاجتماعي والديني والمؤسسي التي طرأت على حياة الإنسان، فالإنسان يستمد أهميته من ذاته ووجوده "ولقد كرمنا بني آدم" ويكون المعنى في قدرته على البقاء وحماية نفسه والآخرين. وهنا تصعد قيم الثقة. اي ان الفرد هو الذي يضمن القيم والمصالح العليا و العامة والأساسية.
لكن معظم الناس لم يألف العيش مع نفسه. هو لم يكن يرى نفسه الا جزءا من جماعة، ولا يرى أهمية لنفسه الا بالعمل المؤسسي. ولم يكن بجد أهمية في العمل بنفسه ولنفسه ما هو ضروري لحياته وسعادته. حتى العبادات الدينية نزعت منها فكرتها الاساسية فيما هي صلة فردية بين الإنسان بما هو فرد وبين السماء وحولت إلى عمليات جماعية َمنظَمة ومؤسسية. برغم ان الإيمان لا يكون الا فرديا. والعبادة لا تكون الا فردية. والقبول او عدم القبول لا يكون الا فرديا. فالانسان يؤمن وحده ولا يضيف إلى إيمانه او ينقص منه الانتماء إلى جماعات المؤمنين . ويقابل الله يوم القيامة وحده. ويتحمل وحده مسؤولية أفعاله واعتقاداته.
يجب التذكير دائما أنه ليس كل صواب دينا، وليس كل أمر مهم فرض ديني. والاستنتاج القائم على قاعدة صحيحة او يقينية لا يساويها في اليقين. وليست الأفعال الدينية جميعها في منزلة واحدة.. ثمة أصول كبرى و فروض وهناك كثير دون ذلك.
لماذا لا توجد آثار تدل على مساجد في الأردن؟ لا نعرف أكثر من عشرة مساجد تاريخية في الأردن، إما ان الناس كانوا غير مسلمين او ان المسلمين لم يبنوا مساجد. وربما لم تكن المساجد سوى ساحات يأتي اليها بعضهم يوم الجمعة عندما تكون الظروف والمواسم مواتية؛ إذ لا يمكن ابدا عند الاخذ بالاعتبار كيف كان الناس يعملون ويعيشون حياتهم وأعمالهم ان يذهبوا الي المساجد أكثر من مرة في الأسبوع.. ويقتصر المداومة على المساجد على فئة محدودة تسمح ظروف حياتهم بذلك او تقتضيه مثل العلماء وطلبة العلم، والذين يكونون غالبا من الأطفال قبل سن العمل، حتى كبار الصحابة كما في كتب السيرة مثل عمر بن الخطاب لم يكن يذهب إلى المسجد كل يوم، وكان يسأل جاره إن سمع خبرا من الرسول في المسجد او ليسال عن صحته عندما كان مريضا.
ثمة لبس مستحكم بين ماهو دين وما ليس دينا. كثير من الأعمال والمؤسسات "الدينية" ليست دينا. هي تنظيمات وعادات لم يأمر بها الله. لكن اجتهدت بها السلطات والمجتمعات. وسواء كان صوابا أو خطأ. ضرورية او غير ضرورية فإنها مهما ترسخت واستقرت تظل اجتهادات انسانية يمكن الاستغناء عنها أو تغييرها. حتى لوكان تغييرها او الاستغناء عنها خطأ أو خسارة فإن ذلك يندرج في دائرة الصواب والخطأ وليس الحلال والحرام.
وفي جميع الأحوال ومهما كان تقييم هذه المقاربة فإن الجدل بين فكرتين ليس بالضرورة جدلا بين الخطأ والصواب، لكنه بين الأقرب إلى الصواب أو الأبعد. والأكثر أو الأقل نفعا أو ضررا، وإذا لم ينتقل الجدل إلى مستوى معقد يستوعب احتمالات الخطأ والصواب وتعدد جوانب الرؤية والموازنة بين السلبيات والايجابيات فإنه يستدرج نفسه بعيدا عن فرص المراجعة والتطوير.