facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




ثنائية «إمّا أو»


أ.د سلطان المعاني
21-10-2025 11:50 AM

تظهر في بنية الفكر الإنسانيُ الثنائية «إمّا أو» بوصفها أقدم أشكال التنظيم الذهني؛ فهي أداة العقل الأولى حين واجه الغموض، فاختار أن يقسم العالم إلى أبيض وأسود، خيرٍ وشرٍّ، وجودٍ وعدَم. لكنها، وقد تَرسّخت في طبقات الوعي الأخلاقي والسياسي والديني، تحوّلت من وسيلة للتمييز إلى أداة للانغلاق، ومن منارة للفهم إلى جدارٍ يحجبُ الرؤية.

إنّ العقل الذي لا يرى إلاّ احتمالين متقابلين يفقدُ القدرة على التدرّج، وعلى إدراك الطيف الواسع بين النهايتين. إنّ «إمّا أو» لا تُنتج معرفة بقدر ما تُنتجُ أحكامًا، ولا تُنير الطريق بقدر ما تُضيّقه. فحيثُ يُختزلُ الوجود في خيارين، يختنق التفكير، وتذبل الأخلاق التي لا تُمارس في المطلق وإنما في الحيّز الرمادي من الحياة. الإنسان، في صميمه، مشروعُ توازنٍ دائم بين ما يجب وما يمكن، بين الواجب الأخلاقي والضرورة الواقعية، بين الإيمان والشك، بين الذات والعالم.

ولعلّ الفيلسوف الدنماركي كيركغارد حين كتب إمّا أو لم يكن يؤسّس للثنائية بقدر ما كان يكشف مأزقها. فالمسألة تكمن في أن نُدرك أن الوجود الإنساني نفسه لا يُختزل في قطبٍ واحد. الخيار الحقيقي يكمن في تجاوز الطرفين، في أن نخلق من بينهما طريقًا ثالثًا يعبّر عن وعينا الحرّ، وعن مسؤوليتنا في أن نُنتج المعنى لا أن نستهلكه.

الثنائيات الميتة: العقل والإيمان، الشرق والغرب، الرجاء واليأس، صارت أقفاصًا لغوية تُمسك بالعقول كما تمسك الشبكةُ بالعصفور. والإنسان المعاصر، تحت ضغط الإعلام والسياسة ومسرحة الحقائق، أصبح أسيرًا لهذه الثنائية الجديدة التي تُخفي التعقيد وتُسوّق البساطة الزائفة، فتجعله يُفكّر بردّ الفعل لا بالفعل. إن عقلية «إمّا معي أو ضدي» هي بنية فكرية قاتلة تسلّلت إلى الأخلاق، فصارت الفضيلة لا تُفهم إلا بنقيضها، وكأنّ النور لا معنى له إلا إذا طمسَ الظلمة.

إن الأفق لا يُضيَّق إلا حين يتخلّى الإنسان عن فضيلة الإصغاء للتعدّد. فالتاريخ، في جوهره، رقصة دائرية تُشارك فيها الأصوات جميعها. والحكمة تكمن في إدراك كيف يلتقي الطرفان داخل التجربة الإنسانية. إنّ النضج الأخلاقي والفكري يعني أن نتحرّر من وهم النقاء، وأن نقبل بأنّ الحقائق، مثل البشر، ناقصةٌ بطبيعتها، وأنّ اكتمالها لا يتمّ إلا بالحوار.

إنّ تجاوز (إمّا أو) هو ارتقاء إلى مستوى أعلى من الوعي، حيث لا تُلغى الفوارق فتُفهَم في سياقها. فحين نرى في كلّ فكرة نقيضَها، وفي كلّ موقفٍ احتمالاته، نصبح أكثر إنسانية وأقلّ تعصّبًا. عندئذٍ فقط، يتّسع الأفق ويغدو الفكر فضاءً مفتوحًا للدهشة، لا سجنًا للحقائق المعلّبة.

إنّ الفلسفة، في معناها الأصيل، تكمن في فنّ الإصغاء لما بينهما، فنّ المقام في المسافة التي يتنفس فيها المعنى. هناك، حيث يسكن الإنسانُ كائناً يُدرك هشاشته، ويتّسع صدرُه للتناقض دون أن يفقد بوصلته. هكذا وحده تُستعاد الأخلاق في صورتها الأسمى: ضوءاً يهدي دون أن يعمي.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :