"إجازة المزاولة" خطوة نحو "تمهين" التعليم وتمكين المعلم
فيصل تايه
23-10-2025 09:39 AM
يعد مشروع نظام "إجازة ممارسة مهنة التعليم" لسنة ٢٠٢٥ والذي وافق مجلس الوزراء على الأسباب الموجبة له ، تمهيداً لإرساله إلى ديوان التشريع والرأي ، لاستكمال إجراءات إصداره حسب الأصول ، خطوة إصلاحية نوعية تتجاوز التنظيم الإداري لتصل إلى صميم العملية التعليمية، حيث يضع المعلم في قلب مشروع تطوير التعليم الوطني ، فالمجتمعات التي تضع المعلم في مقدمة أولوياتها تدرك أن التعليم ليس مجرد خدمة ، بل استثمار في المستقبل وبناء للوعي الجمعي واستدامة التنمية الوطنية.
تمثل فكرة "إجازة ممارسة مهنة التعليم" تحولاًِ في فلسفة التعامل مع التعليم ، من كونه حقلاً وظيفياً مفتوحاً للجميع إلى مهنة ذات معايير واضحة ومقاييس أداء دقيقة، وهو ما ينسجم مع الاتجاهات التربوية العالمية التي تعتبر "الترخيص المهني" مدخلاً لضمان جودة التعليم واستدامة التطوير المهني للمعلمين ، فالإجازة تكتسب بالممارسة وتجدد بالتعلم المستمر ، لتعزز مكانة المعلم في قيادة التغيير التربوي وتعيد للمهنة هيبتها، وتعمل كحافز لتطوير الأداء والارتقاء بالمعلم من مجرد ناقل للمحتوى إلى ميسر للتفكير والإبداع ، بما ينسجم مع معايير الجودة الوطنية ويضعه في قلب منظومة الإصلاح التعليمي .
ومن وجهة نظرنا كتربويين، فإن "النظام الجديد" جاء منصفاً ووفق رؤية تدريجية تراعي استقرار الميدان التربوي، إذ نص القرار على أن جميع المعلمين العاملين حالياً في المؤسسات التعليمية في القطاعين العام والخاص يمنحون إجازة ممارسة المهنة حكماً ، بينما سيطبق النظام فعلياً على المعلمين الجدد اعتباراً من العام الدراسي (٢٠٢٧–٢٠٢٨) ، حيث ان هذه المقاربة تضمن تنظيم المهنة دون المساس بحقوق المعلمين الحاليين، وتمكين الكوادر الجديدة وفق معايير مهنية واضحة، تعكس حرص الدولة على العدالة والجودة.
لقد كشفت التجربة الميدانية في مدارسنا أن جزءاً من الفجوة بين الطموح التعليمي والنتائج الفعلية يعود إلى غياب "إطار وطني" لمعايير الكفايات المهنية، ومن هنا تبرز أهمية النظام الذي يقوم على تقييم الكفايات العملية لا المؤهلات الورقية فقط ، مع ترسيخ ثقافة تطوير ذاتي مستمر تعتمد الأداء الصفي ، والتفاعل مع الطلبة، واستراتيجيات التعليم الحديثة ، كما وتوفر الإجازة إطاراً مهنياً متكاملاً ل"تمهين التعليم" ، وتحسين الوضع الاجتماعي والمادي للمعلم ، وضمان ارتقائه ضمن نظام رتب محفز وواضح ، بما يعزز الالتزام والتطور المستمر، ويضعه في صلب منظومة تطوير التعليم الوطني.
اليوم ، وفي ظل تعدد أدوار المعلم في العصر الحديث، بات من الضروري مواكبة المستجدات في مجاله، وتطوير مهاراته المهنية باستمرار ، فالاهتمام بتهيئته وتمهينه شرط أساسي لأي نظام تعليمي حديث يلبي احتياجات المجتمع التنموية، ويواكب التحول الرقمي والمعرفي، ويؤسس لثقافة تعلم مستمرة.
ولا شك أن "الإجازة" خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أن التحدي الحقيقي يكمن في التنفيذ ، فنجاح المشروع يتطلب بنية مؤسسية متكاملة تضمن العدالة والشفافية في منح الإجازات وتجديدها، وتوفر برامج تطوير مهني تراعي خصوصية الميدان وتفاوت البيئات المدرسية، بما يحقق العدالة الفعلية ويدعم المعلمين دون إثقالهم بالمتطلبات الشكلية.
علينا أن ندرك أن العلاقة بين الإجازة وجودة التعليم علاقة تبادلية قائمة على المحاسبة المهنية الإيجابية ، فالمعلم الذي يخضع لتقييم موضوعي ويتلقى تغذية راجعة بناءة ويحظى بفرص تطوير حقيقية، سيكون أكثر التزاماً ومسؤولية وإبداعاً ، ومن هنا يمكن للنظام أن يشكل نقطة تحوّل إذا ما جعل الإجازة حافزاً للنمو المهني لا مجرد شرط للتعيين.
لقد جاء هذا النظام ليتقاطع مع رؤية جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين التي تؤكد أن التعليم هو ركيزة النهضة الوطنية وبناء الإنسان الأردني أساس الدولة الحديثة، كما انه ينسجم مع رؤية التحديث الاقتصادي والاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية، مما يعكس حرص الدولة على تمكين المعلم وإعداده لمستقبل تنافسي قائم على المعرفة والإبداع.
بقي ان اقول ان إجازة ممارسة مهنة التعليم ليست مجرد إجراء تنظيمي، بل إعلان وطني بأن الدولة تمضي بثقة نحو تمكين المعلم بسياسات تصون كرامته المهنية وتعزز مكانته كشريك أساسي في التنمية والتغيير ، وإذا أُحسن تطبيق النظام وفق معايير دقيقة وأدوات تنفيذ فعالة، فسيكون علامة فارقة في تاريخ التعليم الأردني الحديث.
واخيراً ، فان التعليم هو أصل الإصلاح، والمعلم هو بوابته الكبرى، ولا نهضة وطنية تبنى إلا على أساس متين من إعداد المعلم وتأهيله وتمكينه ، وعندما نكرس الجهد لبناء معلم واثق بكفاءته، معتز بمهنته، مدعوم من مؤسسته ومجتمعه، نكون قد وضعنا الأساس المتين لمستقبل وطني مشرق ، فهل نكون على قدر الرهان على المعلم؟ وهل نستطيع تحويل هذه "الإجازة" إلى فرصة حقيقية للارتقاء بالمهنة، لا مجرد وثيقة إدارية؟
والله ولي التوفيق